الإيمان بالقضاء والقدر، هل يعني التوكل على الله أم يعني التواكل؟
الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر جزء رئيسي من عقيدة المسلم، كما بينها حديث جبريل عليه السلام: «الإِيمانُ: أنْ تُؤمن بِاللهِ ومَلائِكتِه، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخِرِ، وتُؤمن بِالقَدَرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ» 1[أخرجه الشيخان].
وهو من مميزات هذه الأمة في تاريخها الطويل.
ولكنه كان في حس الأجيال الأولى من هذه الأمة قوة دافعة بناءة محركة، بقدر ما صار في حس الأجيال المتأخرة منها قوة سلبية هدامة مُخذِّلَة، حين انحرف مفهوم القضاء والقدر في حسها عن صورته الصحيحة التي عاشت بها الأجيال الأولى وبنت وعمرت وتحركت.
والصورة الظاهرة واحدة في الحالين، ولكن شتان ما بين هذه وتلك في حقيقة الأمر.. كما حدث في كل شيء في حياة هذه الأمة!
إن ألفاظ الشهادة التي كانت تنطقها الأجيال الأولى من المسلمين هي ذات الألفاظ التي جرت على لسان الأجيال المتأخرة «أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله» ولكن الأولى كانت تهز الأرض كلها وتحركها لأنها كانت تعمل في واقع الأرض برصيدها الكامل وشحنتها الكاملة، والأخيرة لم تعد تصنع شيئا في الأرض، بل لم تعد تستطيع حتى أن تحافظ على الوجود الإسلامي أمام الغزو العسكري والسياسي والاقتصادي، وأمام الغزو الفكري الذي هو أخطر من هؤلاء جميعا، لأنها صارت كلمة بغير شحنة ولا رصيد!
وحركات الصلاة من قيام وقعود ورکوع وسجود، وقرآن يتلى، وألفاظ تردد، هي هي منذ كانت إلى اليوم لم يتغير فيها شيء. ولكنها كانت تقام فتعلن عن وجود أمة حية قوية مهيبة، لأنها كانت تؤدَّى على حقيقتها، وتؤدِّی مقتضاها، فتعلن عن وجود الأمة التي حققت في عالم الواقع غاية الوجود الإنساني، فكان لها من ثم الغلبة على أيَّة أمَّة أخرى لا تحقق هذا الوجود على صورته الصحيحة، تحقيقا لسنة الله في الأرض:«وَلَقَد كَتَبنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِن بَعدِ ٱلذِّكرِ أَنَّ ٱلأَرضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ» سورة الأنبياء [105].
وتحقيقا لوعد الله لهذه الأمة خاصة: «وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَستَخلِفَنَّهُم فِی ٱلأَرضِ كَمَا ٱستَخلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبلِهِم وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُم دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرتَضَىٰ لَهُم وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا یَعبُدُونَنِی لَا یُشرِكُونَ بِی شَیء..» سورة النور [55].
وكذلك عقيدة القضاء والقدر.. صورتها الظاهرة هي الإيمان بأن كل ما يحدث في هذا الكون وفي حياة الإنسان يتم بقضاء من الله وقدر، وأنه لا يحدث في هذا الكون العريض كله ولا في حياة الإنسان إلا ما قدره الله.
«إِنَّا كُلَّ شَیءٍ خَلَقنَـٰهُ بِقَدَرٍ» سورة القمر [49].
«مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ فِی ٱلأَرضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُم إِلَّا فِی كِتَـٰبٍ مِّن قَبلِ أَن نَّبرَأَهَاۤ إِنَّ ذَ لِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرٌ» سورة الحديد [۲۲].
«مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ إِلَّا بِإِذنِ ٱللَّهِ وَمَن یُؤمِن بِٱللَّهِ یَهدِ قَلبَهُۥ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیءٍ عَلِیمٌ» سورة التغابن [۱۱].
«قُل لَّن یُصِیبَنَاۤ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَولَىٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلیَتَوَكَّلِ ٱلمُؤمِنُونَ» سورة التوبة [51].
الإيمان بالقضاء والقدر لا يعني التواكل بل التوكل على الله
ولكن الفارق الضخم في حقيقة هذه العقيدة بين الأجيال الأولى والأجيال المتأخرة هو الفارق بين التوكل على الله كما مارسته الأجيال الأولى والتواكل الذي حدث في عصر الانحسار، ثم عصر الانحدار وهو فارق لا يقل ضخامة عن فارق لا إله إلا الله، وفارق الصلاة وسائر العبادات ما بين هذه الأجيال وتلك الأجيال!
كان المسلم الأول يؤمن بأن كل ما يحدث له أو يحدث في الكون هو بقضاء الله وقدره، وأن شيئا لن يغير ما قدره الله منذ الأزل في اللوح المحفوظ.
ثم كانت نتيجة إيمانه بذلك أن يقول لنفسه: أإذا ذهبت إلى میدان القتال أُقتَل بسبب ذهابي إلى هناك؟ أم إنه يجري على ما قدره الله لي، فإن كان كتب لي الشهادة هناك فسأقتل – بقضاء من الله وقدر – وإن كان كتب على العودة فسأعود؟ ثم إني إن كان الله قد كتب على الموت فسأموت ولو كنت في مكاني هذا ولم أذهب إلى القتال… إذن فما الذي يقعدني عن القتال؟ خوف الموت وهو مقدر على أي حال؟ أم خوف الأذى ولن ينالني منه إلا ما قدره الله في كل حال؟ كلا فلنذهب إلى أداء فريضة ربنا، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون. ثم يذهب إلى القتال بنفس شجاعة فيستبسل، فيُمضي الله به قدره في الأرض، وينصر به هذا الدين ويمكن له، ثم يكون من أمره ما قدره الله له، إما الشهادة وإما النصر.
«قُل هَل تَرَبَّصُونَ بِنَاۤ إِلَّاۤ إِحدَى ٱلحُسنَیَینِ» سورة التوبة [52].
ولما اضطربت نفوس المنافقين وضعاف الإيمان بعد هزيمة أحد نزلت آيات بينات تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها وترسخها في نفوس المؤمنين.
«ثُمَّ أَنزَلَ عَلَیكُم مِّن بَعدِ ٱلغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا یَغشَىٰ طَاۤىِٕفَةً مِّنكُم وَطَاۤىِٕفَةٌ قَد أَهَمَّتهُم أَنفُسُهُم یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیرَ ٱلحَقِّ ظَنَّ ٱلجَـٰهِلِیَّةِ یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمرِ مِن شَیءٍ قُل إِنَّ ٱلأَمرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ یُخفُونَ فِیۤ أَنفُسِهِم مَّا لَا یُبدُونَ لَكَ یَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمرِ شَیءٌ مَّا قُتِلنَا هَـٰهُنَا قُل لَّو كُنتُم فِی بُیُوتِكُم لَبَرَزَ ٱلَّذِینَ كُتِبَ عَلَیهِمُ ٱلقَتلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِم وَلِیَبتَلِیَ ٱللَّهُ مَا فِی صُدُورِكُم وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِكُم وَٱللَّهُ عَلِیمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ» سورة آل عمران [154]..
«یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَٱلَّذِینَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخوَ نِهِم إِذَا ضَرَبُوا فِی ٱلأَرضِ أَو كَانُوا غُزًّى لَّو كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِیَجعَلَ ٱللَّهُ ذَ لِكَ حَسرَةً فِی قُلُوبِهِم وَٱللَّهُ یُحیِۦ وَیُمِیتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِیرٌ * وَلَىِٕن قُتِلتُم فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَو مُتُّم لَمَغفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحمَةٌ خَیرٌ مِّمَّا یَجمَعُونَ * وَلَىِٕن مُّتُّم أَو قُتِلتُم لَإِلَى ٱللَّهِ تُحشَرُونَ» سورة آل عمران [156 – 158].
، إيمان المسلم بقضاء الله وقدره، لاينفي مسؤليته عن عمله
كذلك كان المسلم الأول يفعل وهو يكشف مجاهيل الأرض لنشر الدعوة، ولطلب العلم، وللسعي وراء الرزق، ويمشي في مناكب الأرض ويتعرض للأخطار والمشقات.
كانت القاعدة في حسه أن أقدم.. وتوكل على الله.
كيف تحول هذا الإقدام إلى تقاعس وقعود في انتظار ما قدره الله؟!
كذلك كان في حس المسلم الأول أن إيمانه بالقضاء والقدر لا ينفي مسئوليته عن عمله حين يرتكب خطأ يعرضه للجزاء.
وفي وقعة أُحُد كان الدرس هائلا وعميقا في نفوس المؤمنين.
لقد خالف الرماة أمر قائدهم ورسولهم – صلى الله عليه وسلم – إذ أمرهم ألا يبرحوا أماكنهم ولو رأوا المسلمين تتخطفهم الطير. ولكنهم حين رأوا النصر، وظنوا أن المعركة قد انتهت إلى غايتها، شغلتهم الغنائم عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغادروا أماكنهم ونزلوا مخافة ألا يحسب لهم نصيب من الغنائم! ومن هنا كرَّ المشركون بخيلهم على جيش المسلمين مطمئنين إلى انصراف القوة الضاربة من فوق جبل الرماة. وكانت الهزيمة والاضطراب العنيف في صفوف الجيش، وإصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أشاع الكفار من قتله عليه الصلاة والسلام، وأثر ذلك في تفريق وحدة الجيش..
ونزل القرآن بعتاب شديد للمؤمنين على ما فعلوا. ونزل كذلك بالشرح والبيان. وكان من هذا الشرح تلك الآيات:
«أَوَلَمَّاۤ أَصَـٰبَتكُم مُّصِیبَةٌ قَد أَصَبتُم مِّثلَیهَا قُلتُم أَنَّىٰ هَـٰذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیءٍ قَدِیر * وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم یَومَ ٱلتَقَى ٱلجَمعَانِ فَبِإِذنِ ٱللَّهِ وَلِیَعلَمَ ٱلمُؤمِنِینَ * وَلِیَعلَمَ ٱلَّذِینَ نَافَقُوا..» سورة آل عمران [165 – 167].
إنه من عند أنفسكم.. وفي ذات الوقت هو بإذن الله.
المسئولية عن الخطأ قائمة، والإيمان بأنه من قضاء الله وقدره قائم.. لا يتعارضان.
ولقد كان هذا من أعظم ما تعلمته هذه الأمة ومن أعظم ما تميزت به: إزالة التعارض بين إيمان الإنسان بمسئوليته عن عمله، وإيمانه بقضاء الله وقدره، وإقرار الأمرين معا في القلب البشري ليتوازن بينهما، ويتوازن بينهما في مسيرته في هذه الأرض، فلا يزايله الإحساس الدائم بقدر الله والتطلع إليه في الكبيرة والصغيرة، ولا يزايله كذلك مراقبته لأعمال نفسه ووزنها بميزان الخطأ والصواب.
كيف تحول هذا التوازن البديع إلى تنصل من كل مسئولية بدعوى الإيمان بقضاء الله وقدره؟
كذلك كان في حس الأمة الأولى أن إيمانها بالقضاء والقدر لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب.
لقد كانوا يدركون من جانب أن لله سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير. ومع أن لله – سبحانه وتعالى – سنة خارقة تملك أن تصنع كل شيء، ولا يعجزها ولا يقيدها شيء، لأن مشيئة الله طليقة من كل قيد، إلا أن الله جلت قدرته قد قضى بأن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا، وأن تكون سنته الخارقة استثناء لها، وكلتاهما معلقة بمشيئة الله.
لذلك كان في حسهم أنه لابد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم، أي أنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن الجارية.
وبيّن الله لهم ذلك بيانا صريحا في كتابه المنزل.
فلقد قدر الله لدينه أن ينتصر ويمكن في الأرض، وقدر لكيد الكفار أن يحبط:
«هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلهُدَىٰ وَدِینِ ٱلحَقِّ لِیُظهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَو كَرِهَ ٱلمُشرِكُونَ» سورة الصف [۹].
«وَلَا یَحسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا سَبَقُوۤا إِنَّهُم لَا یُعجِزُونَ» سورة الأنفال [59].
لا يعجزون الله الذي كتب لدينه النصر، ولا يسبقون قدره. فقدره هو السابق وإرادته هي النافذة.
ومع ذلك فهل قال لهم: ما دمت قدرت لديني النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا نفاذ قدري، وهو لابد نافذ؟ كلا! إنما قال لهم – في نفس الوقت الذي عرفهم فيه بقدره المكتوب لهذا الدين، وبأنه نافذ لا محالة – إنه لابد لهم أن يُجاهدوا ويُعدوا:
«وَلَا یَحسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا سَبَقُوۤا إِنَّهُم لَا یُعجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلخَیلِ تُرهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِم لَا تَعلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعلَمُهُم وَمَا تُنفِقُوا مِن شَیءٍ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیكُم وَأَنتُم لَا تُظلَمُونَ» سورة الأنفال [59 – 60].
«یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا إِن تَنصُرُوا ٱللَّهَ یَنصُركُم وَیُثَبِّت أَقدَامَكُم» سورة محمد [۷].
فلابد من اتخاذ الأسباب للنصر، وإن كان النصر قدرا مقدورا من عند الله..
الإيمان بقدر الله، هو أن نتخذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب السنة الجارية
وهكذا تجاور في حس المسلم إيمانه بقدر الله، وإيمانه بأنه لابد أن يتخذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب السنة الجارية، وإن كانت هذه الأمة لم تترك لتفتن بالأسباب، تظنها مؤدية – بذاتها – إلى النتائج بمعزل عن قدر الله كما تصنع الجاهلية المعاصرة، فقد كان درس حنين لتثبيت هذا المعنى في نفوس المؤمنين.
«.. وَیَومَ حُنَینٍ إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَیـًٔا وَضَاقَت عَلَیكُمُ ٱلأَرضُ بِمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّیتُم مُّدبِرِینَ * ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلمُؤمِنِینَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّم تَرَوهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا وَذَ لِكَ جَزَاۤءُ ٱلكَـٰفِرِینَ» سورة التوبة [25 – 26].
وكان هذا كذلك من أبدع ما تعلمته هذه الأمة وتربت عليه، التوازن في مسيرتها الأرضية بين التواكل بغير اتخاذ الأسباب، وبين الاتكال على الأسباب.
كيف تحول هذا التوازن الرائع إلى سلبية كاملة، وقعود عن اتخاذ الأسباب بدعوى الاتكال على الله؟
ثم إنه لم يكن في حس الأمة الأولى تعارض بين التسليم لقدر الله، والعمل على تغيير الواقع السيئ حين يكون.
إن كل شيء في هذا الوجود وفي حياة البشر واقع بقضاء الله وقدره. لا جدال في ذلك ولا شك فيه في نفوس المؤمنين.
وحين يوجد واقع سيء في حياة الناس فهو واقع بقضاء الله وقدره، سواء بسبب من عند الناس كما حدث للمؤمنين يوم أحد بسبب مخالفتهم لأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو لأمر لا مسئولية لهم فيه كما كان الحال في طاعون عمواس أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه -( ولم تكن أسباب الطاعون معروفة يومئذ ولا وسائل علاجه، فلا مسئولية على أحد في ذلك الحين) أو ابتلاء من عند الله للمؤمنين ليمحصهم كما يحدث في فترات الابتلاء التي تجرى بسنة من سنن الله:«أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُترَكُوۤا أَن یَقُولُوۤا ءَامَنَّا وَهُم لَا یُفتنون * وَلَقَد فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبلِهِم فَلَیَعلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا وَلَیَعلَمَنَّ ٱلكَـٰذِبِینَ» سورة العنكبوت [3-2].
هذا وغيره مما يصيب الناس في الأرض يحدث كله بقضاء الله وقدره..
ولكن الله لم يأمر الناس أن يستسلموا لقدر الله بمعنى عدم العمل على تغيير الواقع السيئ الذي هم فيه. إنما أمرهم بالتسليم (أو الاستسلام) لقدر الله بمعنى الرضى بما وقع بالفعل على أنه قدر محتوم لم يكن يمكن تلافيه. أما القعود عنده، وعدم تغييره أو محاولة تغييره فأمر آخر لم يأمر الله به ولا حث عليه، ولا علاقة له بالرضى بما وقع على أنه قدر محتوم من عند الله..
ولنأخذ النماذج الثلاثة التي أشرنا إليها على سبيل المثال.
فحين وقعت هزيمة أحد، بسبب من عند المؤمنين وبقدر من عند الله في الوقت ذاته:«قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیءٍ قَدِیر وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم یَومَ ٱلتَقَى ٱلجَمعَانِ فَبِإِذنِ ٱللَّهِ وَلِیَعلَمَ ٱلمُؤمِنِینَ» سورة آل عمران [165 – 166].
طلب الله من المؤمنين أن يسلموا لهذا القدر المقدور:
«فَأَثَـٰبَكُم غَمَّا بِغَمٍّ لِّكَیلَا تَحزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُم وَلَا مَاۤ أَصَـٰبَكُم وَٱللَّهُ خَبِیرُ بِمَا تَعمَلُونَ. ثُمَّ أَنزَلَ عَلَیكُم مِّن بَعدِ ٱلغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا یَغشَىٰ طَاۤىِٕفَةً مِّنكُم..» سورة آل عمران [153 – 154].
ولكن هل طلب منهم أن يستسلموا للهزيمة ويقعدوا، ولا يحاولوا تغيير الموقف السيئ الذي وجدوا أنفسهم فيه، بحجة أنه قدر مقدور لم يكونوا ليفلتوا منه مهما حاولوا؟
كلا! إن الرسول صلى الله عليه وسلم، القائد والصاحب والمربي، تصرف في ذلك الموقف تصرفا يدل على اتجاه مغاير تماما لهذا الظن. فقد جمع المسلمين – بجراحاتهم – للقاء العدو مرة أخرى، والهزيمة لا تنته آثارها من الأجساد ولا من النفوس! وامتدح الله موقف المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح:
«ٱلَّذِینَ ٱستَجَابُوا لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعدِ مَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلقَرحُ لِلَّذِینَ أَحسَنُوا مِنهُم وَٱتَّقَوا أَجرٌ عَظِیمٌ ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَٱخشَوهُم فَزَادَهُم إِیمَـٰنًا وَقَالُوا حَسبُنَا ٱللَّهُ وَنِعمَ ٱلوَكِیلُ * فَٱنقَلَبُوا بِنِعمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضلٍ لَّم یَمسَسهُم سُوۤءٌ وَٱتَّبَعُوا رِضوَ نَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضلٍ عَظِیمٍ» سورة آل عمران [172- 174].
فهؤلاء هم الذين هزموا بقدر من الله (وإن كان بسبب من عند أنفسهم في الوقت ذاته) يقولون: «حسبنا الله ونعم الوكيل». فهم يتوكلون على الله ليخرجوا من الواقع السيئ إلى واقع جديد! ولا يمنعهم قدر الله السابق من التطلع إلى قدر جديد! وإذا كان قدر الله الأول قد أصابهم بخطأ ارتكبوه، فهم يتطلعون إلى قدر الله الآخر بعمل يقدمونه بين يدي ذلك التطلع، وهو الاستجابة لله والرسول، أی بسلوك صحيح بعد السلوك الذي وقعت فيه الأخطاء. وهو اتخاذ الأسباب مع التوكل على الله. وهكذا لم يتعارض في حسهم التسليم بقدر الله الواقع مع العمل على التغيير.
وفي طاعون عمواس، علم الخليفة رضي الله عنه بخبر الطاعون فأمر الجند بالانصراف، فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه: «أتفر من قدر الله؟!» قال: «أفر من قدر الله إلى قدر الله!» وهي عبارة بليغة تدل على عمق فهم الخليفة – رضي الله عنه – لقضية القضاء والقدر. إن الطاعون قدر واقع على الناس بالفعل، ولكنه لم يقع بعد على عمر وجيشه. فالعمل على تحاشيه أمر واجب. وهو يتم – حين يتم – بقدر من الله كذلك. فقدر الله بالطاعون لا يمنع قدر الله بالنجاة من الطاعون! ولقد اتخذ عمر الأسباب التي ظنها مؤدية إلى النجاة، فتمت النجاة بقدر من الله.
وفي الابتلاء الذي أصاب المؤمنين على يد قريش – وهو سنة من سنن الله لم تتخلف مع أي جماعة من المؤمنين تواجه الجاهلية في بدء الدعوة قبل التمكين – كان الابتلاء واقعا بقدر من الله، ولحكمة كذلك يعلمها الله ویریدها:
«وَلَقَد فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبلِهِم فَلَیَعلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا وَلَیَعلَمَنَّ ٱلكَـٰذِبِینَ» سورة العنكبوت [۳].
فهل منع ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين من محاولة التغيير؟ بطلب الجوار من بعض المشركين حينا، وبالهجرة إلى الحبشة حينا، حتى جاء الإذن بالهجرة إلى المدينة آخر الأمر؟
كلا! إن وقوع الابتلاء بقدر من الله، وبمقتضى سنة من سنن الله الحتمية، لا يمنع الاجتهاد في تحاشي الابتلاء أو التخلص منه، وحين يتم شيء من ذلك فإنه يتم بقدر من الله، وحين يخفق الجهد فسيكون ذلك أيضا بقدر من الله! لذلك لم يتعارض في حس الأمة الأولى واجب التسليم لقدر الله مع محاولة التغيير تطلعاإلى قدر جديد من عند الله. وكان هذا من روائع ما تربت عليه الأمة لتتوازن به بين سلبية الاستسلام التي تحطم الإرادة وبين الرغبة الجامحة التي لا تعرف التسليم.
المصدر:
كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص255-269 بتصرف يسير.
الهوامش:
- [أخرجه الشيخان].
اقرأ أيضًا:
عقيدة القضاء والقدر .. بين الغلو والجفاء
غياب المفهوم الصحيح للعبادة وأثر ذلك في الأمة