ثمة فرق بين التوكل والعجز، بين الاندفاع الى أسباب الفلاح متوكلا على الله والعجز لانحراف الفهم أو القصد. وقد استغل العدو تلك الثغرات في الأمة.

مقدمة

في هذا المقال أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله عز وجل وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله عز وجل، والذي قد يؤدي إلى التواكل، والعجز، والرضا بالفساد، والذلة، والمهانة، وترْك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجْنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر.

محورية فهم عقيدة القضاء والقدر في زماننا

إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان الفهم الصحيح لـ “عقيدة القضاء والقدر”، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العُلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا والحمد لله هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد الأسماء والصفات.

ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقَّص المؤمنين به، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل. وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله عز وجل وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده.. كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر. كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته.

ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخَّرها الله سبحانه، ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان؛ فالواجب الصبر والاستسلام لقضاء الله عز وجل، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول:

“ودفْع القدَر بالقدَر نوعان:

أحدهما: دفْع القدَر الذي قد انعقدت أسبابه ولمّا يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.

الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدَر المرض بقدر التداوي، ودفع قدَر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدَر الإحسان.

فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف يشاء”. (1مدارج السالكين، ج1، ص20)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا.. الحديث». (2رواه مسلم: كتاب القدر، ح2664). ويشرح الإمام النووي الحديث، فيقول:

“والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك.

وقوله، صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز» معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة”. (3شرح صحيح مسلم للنووي، ج16، ص215)

الفرق بين العجز والتوكل

ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن الفرق بين العجز والتوكل، فيقول:

“والفرق بين التوكل والعجز:

أن التوكل عمل القلب وعبوديته؛ اعتماداً على الله، وثقة به، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته سبحانه، وحُسن اختياره لعبده إذا فوَّض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين، وكان يلبس لأَمَتَه ودِرعه، بل ظاهر يوم “أُحد” بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب.

وأما العجز؛ فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل..! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط. وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب. فهذا توكله عجز، وعجزه توكل”. (4الروح، ص344)

ويقول الدكتور “علي العلياني” وفَّقه الله تعالى في حديثه عن أهل التصوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله: إن من صفاتهم:

“الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم، زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون؛ لأن الله أراد ذلك..!

ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم: لقد رأيت “الخضر” وسيدي “أبا العباس الشاذلي” وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس، يا جماعة هذا أمر الله، فما العمل..؟

فقالوا له: إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيله، فلا داعي للحرب..! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة.

إلى أن يقول: إن عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو كان هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسَبْي ذراريهم. وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر..! وغير متوكل على الله..! فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع القتال..؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً..!! ولكن ما له ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحِلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصدِّيقين على زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا”. (5أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، باختصار، ص288)

خاتمة

يظن الظان بباديء الرأي أن المتوكل بعيد عن العمل؛ بينما المتوكل أعظم الناس عملا وأخذا بالأسباب تعبدا وهو أقدر من غيره وأعظم عملا بسبب توكله الذي يعمل لله به، فتكون معونة الله له أعظم من غيره. ولذا فوصوله أسرع من غيره.

وقد جمع تعالى شقيْ تلك الحقيقة في قوله تعالى ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ فهذا عمل العبد وتوجهه الى الله تعالى ثم قال ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (التكوير: 28 ـ 29) فجمع تعالى بين شقي الحقيقة التي لا وصول للعبد إلا بهما. والله تعالى الموفق للخير.

………………………………..

الهوامش:

  1. مدارج السالكين، ج1، ص20.
  2. رواه مسلم: كتاب القدر، ح2664.
  3. شرح صحيح مسلم للنووي، ج16، ص215.
  4. الروح، ص344.
  5. أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، باختصار، ص288.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة