كل معالجة مبتورة لقضية من القضايا مآلها الفشل؛ إذ إن من يباشر علاجها أو يهتم بها لم يعلم جذورها وأسبابها المُفضية لواقعها المؤلم، وبالتالي جهل طريق العودة..

ومن جهل طريق العودة ضل في أوديتها ولم يظفر بجواب، فضلا عن أن يدل الآخرين على الطريق، ولو زعم أنه يدل غيره وتصدر للمشهد وهو لا يعرف جذور القضية فهو يضيع على الناس أعمارهم ومقدراتهم بل وتضحياتهم؛ إذ جعلها في غير طريقها وجعلها غير مرجوة النفع، لأنها ليست في السياق الصواب.

إنفاق العمر

إننا ننفق أعمارا ومقدرات ونؤمل آمالا عراضا في غير سياقها فيصاب الناس بالإحباط ويبدو لهم أنه لا أمل فيما يبذلون ويناضلون، وأن القدس ضاعت، وأن العدو قد استقر أمره بلا رجعة..

والشأن ليس في قوة العدو.. بل الأمر في عدم المعالجة الحقيقية والجذرية والمسؤولة عن إحداث تغيير جذري وتاريخي يعدّل الأوضاع ويُعطي للناس أملا في أنهم قادرون على التغيير وإحداث النقلة وتصحيح أوضاعهم والخروج من مأزقهم التاريخي.

القدس ليست هي أول القضايا ولا آخرها.. لكنها نتيجة وعنوان.. ألم الأمة فيها عظيم وحولها تحتشد القوى وتتجه الأنظار، لعل الناس يلتفتون كيف ضاعت، ومن ثم كيف تعود..

أثر الخلل العقدي في ضياع القدس

تمزقت الأمة بين ولاءات قومية ووطنية، وأعلنت على كل قُطر من أقطارها أنه أولا وقبل كل شيء، وجعلت الانتماء اليه مقدما على الانتماء للأمة وللمسلمين..

لم يقصدوا تقديم أوطانهم على أنها يبدؤون العمل بها من أجل دينهم وأمتهم، بل يقصدون أنها بديلة للانتماء الإسلامي ومبيحة لولاء الكافرين إذا رأوا أن فيه مصلحة (متوهَمة) للوطن، ويقصدون بها التخلي والتحرر من الالتزام بنصرة قضايا المسلمين.

وبعضهم يجعل الانتماء العقدي للإسلام خيانة للوطن !

ومن ثم يتمادون في مجافاة الإسلام وتخوين أهله، إذ يجعلون الانتماء للإسلام مناقضا للانتماء للوطن ! بل وخطرا على الوطن ذاته.. إذ إن هناك أقليات غير مسلمة تتأفف من الانتماء للإسلام ومن شريعته، ولهذا يرون أنه لا بد من تنحيته من الانتماء والهوية، وكذلك من الشرائع والقوانين والصبغة العامة للمجتمعات..

وبالتالي يرون ـ فيما يرى الغافل والمخادِع أو المخدوع ـ أن تنحية الإسلام من الانتماء يعني لُحمة أبناء الوطن..!!

وهذه مناقضة للعقيدة وإسقاط لركن عظيم من أركان التوحيد، وهو ولاية الله تعالى دون شريك (فالله هو الولي) (قل أغير الله أتخذ وليا) (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)..

وهي أيضا تكذيب أو ارتياب أو غفلة عما أخبر الله تعالى من توجهات أصحاب العقائد المناقضة للإسلام (من أهل الكتاب والمشركين)..

وهي أيضا غفلة عن طبيعة النفوس البشرية وعمق الانتماء العقدي الديني لديها.. وهي أيضا إحسان للظن في غير محله، ومجاملة في أمر لا مجاملة فيه..

ثم هم يفاجَؤون بأن القوى التي تركوا من أجلها انتماءهم العقدي للإسلام هي قوى متآمرة مع أخرى إقليمية أو دولية ضد بلادهم نفسها وضد دينهم، وأن (الوطن) الذي تركوا من أجله ـ عقيدتهم وانتماءهم كما يتوهمون ـ هو آخر ما يفكر فيه المخالفون لهذا الدين، وأن الحقيقة القابعة في الأعماق أن هذا الدين ليس مناقضا للوطن ولا لحبه ولا للعمل لرفعة البلاد وتقدمها وحمايتها ووحدتها.. بل هو الضامن لحفظ الوطن، ولحماية الأقليات ولتحقيق الاستقرار.

بل إنهم يفاجؤون فيما يتفاجأ به الغافل والمخدّر والمخادَع أن اصطفاف الآخرين كان اصطفافا عقديا لسرقة (الوطن والبلاد) لصالح (عقيدة) بعينها أو ضد عقيدة بعينها.

[للمزيد عن: حقيقة الإسلام العقدية عبر التاريخ اضغط]

معنى الانتماء الإسلامي

ثمة غفلة أيضا عن معنى الانتماء الإسلامي، فالانتماء للإسلام ليس طائفيا ضد عقيدة أو مذهب؛ بل هو انتماء للإسلام والسنة لإقامة الأمة، وتحقيق معناها وكينونتها، وخدمتها ورفعتها ووحدتها..

والانتماء للإسلام ليس مناقضا للانتماء للوطن؛ بل الوطن جزء منه لأن الوطن هنا له صفة (وطن إسلامي) وهو جزء من انتماء المسلم، وله حرمته ووجوب الذود عنه وحمايته.. وهناك (واجب) الوحدة مع الأمة ومحذور التآمر مع غير المسلمين ضده أو ضد جزء آخر من (الأمة)..

وأن الانتماء الإسلامي يعني (الأمة) الواحدة التي تنطوي تحتها الأديان والمذاهب في حرية عقدية للاعتقاد الفردي والتعبد الفردي مع إقامة الشريعة والهوية والمنهج الرباني، وتحقيق النظام السياسي والاجتماعي والفكري للإسلام.

[للمزيد عن: علاقة أقطارنا بالقدس]

نتيجة الخلل يظهر في القدس

عندما يغيب هذا المعنى العقدي وتضطرب الأمور يتخلى الناس عن جزء منهم، فتتخلى الأمة عن قطعة منها وهي القدس وفلسطين، وتسمع العجائب.. كمن يقول أنهم باعوا بلادهم ـ وينسى عشرات الآلاف من المجاهدين والشهداء وعقود من الكفاح المتواصل.

أو تسمع عجيبة أخرى وكذبا أنهم لم يحافظوا على بلادهم ودارهم فهل نحفظها نحن لهم..؟! وهي كذبة كأختها السابقة.

وثالث يقول لن ننصر القدس وأهله لأنهم سيحاربون لآخر جندي مصري أو خليجي أو مغربي أو غيره..! الى غير ذلك من الكذبات والترهات، وحقيقة حالهم أنهم إن يقولون إلا كذبا.. فالمقيمون ببيت المقدس وأكنافه يقدمون أنفسهم وفلذات أكبادهم، رجالا ونساءا، كل يوم جهادا وثباتا ورباطا.

وهنا تبقى قطعة من الأمة (فلسطين) وحدها، ويبقى القدس قضية تتقزم عند هؤلاء المضطربين أو المتآمرين فتصبح قضية فلسطينية ! وليست إسلامية ! وبالتالي يسهل على العدو ابتلاعها؛ لأنه ومن العجب أن العدو متّحد، وله رِدءٌ غربي متعاون ومحدد الهدف، وله جند مباشر (الصهاينة) يعرف وظيفته وهدفه، وكلاهما صاحب عقيدة واضحة بغض النظر عن تصريحات الإعلام والكلام السياسي الناعم.. بينما تعرى أصحاب القضية من عقيدتهم وسلاحهم إذ جاملوا به في سوق تلك الصفقات المغبونة.

خلل آخر؛ وأثره في قضايانا وفي ضياع القدس

وعندما يرى الناس أنهم غير ملزمين بإقامة شريعة الله ولا تناول قضاياهم من خلالها؛ تغيب فرائض الله وأوامره عن توجيه الأمة والحكومات.

تغيب حرمة التعاون مع العدو، وتغيب حرمة تسليم المسلم لعدوه، وتغيب حرمة القعود عن نصرة المسلمين.. (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه ولا يخذله).

عندما تنحسر شريعة الله تعالى تتغير القيم والأوضاع فيتربى جيل بل وأجيال على الميوعة والترف والتحلل الأخلاقي، والضعف النفسي والانهزام أمام العدو، واضطراب الانتماء، بل ويطعن موجهوهم في التاريخ ورموز الأمة وأبطالها..

ومثل هؤلاء لا يصلُحون لاسترداد أرض أو دفاع عن عرض..

وعندما تنحسر شريعة الله يضطرب الناس أمام تاريخهم وتقييمه، والقيم التي يتبنونها والصبغة التي يتشربون بها.. ومجتمعات كهذه لا تعرف نفسها هل تعرف قدسها وقيمته وواجب استرداده..؟

أثر التخلف في قضايانا وقضية القدس 

والمجتمع الذي لم يعرف هويته ومنهجه، ولم يحسم أمرهما.. وتفسخت عزيمته وتحللت أخلاقه وأصبحت الشهوة معروضة في كل مكان، ومحورا للعمل والنشاط والسعي..

مثل هذا ليس بقادر على التقدم إذ إن القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي الوعاء الذي تُصب فيه العلوم والمعارف، وهو الذي ينظم ويحفز المجتمع لسد الفجوة الحضارية، وهذا الوعاء بدوره مبني على حسم الهوية والمنهج والقيم والخلُق..

فأمة تأخذ سلاحها من عدوها، وعدوها هو الذي زرع الكيان الصهيوني في قلبها ليدميها ويفرقها، ثم يمزقها ويقتلها، هو أمر يُعد من عجائب الزمان والمنطق..

[اضغط للاطلاع على: التاريخ لمعرفة ما قبل استرداد القدس]

قضايانا سياق واحد

إن أمةً تحسم هويتها وتعرف نفسها، وتحدد منهجها، وتقرر امتلاك أمرها وزمامها، وتحدد بوصلتها واتجاهها، يصبح أمر استرجاع المفقود واسترداد المقدسات والمقدرات ممكنا.

لا أقول هذا للتوقف عن الكفاح بل لترشيده ودفعه والشد من أزره، ولوضعه أولا في سياقه القابل للإثمار والنجاح..

فإن وجد من هم بقبالة العدو ـ في القدس ـ أنفسهم دون ظهير واضح فقاموا ينافحون عن دينهم وبلادهم ومقدسات الأمة ورفعوا أيديهم لله تعالى (اللهم هذا عنك وهذا عن نبيك) واستفرغوا وسعهم؛ فهؤلاء قد أدوا ما عليهم، ولا عليهم إن تأخر الآخرون..

لكننا نشدّ على أيدي أمتنا لتعود وتأخذ دورها وتستدرك أمرها وتتدارك أخطاءها وتحمي أبناءها وتدرك مقدساتها قبل أن يحدث حدث تاريخي ومصيبة جلل لا تنساها الأجيال حيث تلتصق عظائم الهزائم بهذا الجيل المعاصر وما سبقه، وهو حِمل ثقيل على أكتاف الضعاف..

المعلومة البسيطة في ختام الأمر تقول أنه لا ينتفش الباطل إلا في غياب الحق، ولا تعم الظلمة إلا لغياب شعاع النور، ولو انطلق الخير وأخذ دوره لتوارى الباطل وانفثأت فقاعته.. فأين أهل الخير..؟

الخلاصة أن العودة للقدس لها طريق، هو نفس طريق حل بقية قضايانا .. قضايانا غير منفصلة. نحن أمة واحدة، واتجاه نهضتها ومعالجة قضاياها سياق واحد، والله تعالى هو  الهادي الى سواء السبيل..

……………………………………….

اقرأ المزيد:

  1. خطورة الدعوات القومية على قضايانا
  2. علاقة القدس بالصراع الأمريكي والعالمي
  3. كيف انحرفت الأمة عن الهوية الإسلامية
  4. أثر التفرق في ضياع القدس

التعليقات غير متاحة