إن الإيمان بالله عز وجل فطرة فُطِرَ الناس عليها مادام الإنسان يعيش في بيئة اجتماعية سوية، مستقيما في تفكيره، متحررا من سلطات الوهم والخرافة والهوى. أما إذا كانت البيئة الاجتماعية منحرفة، فإنها تؤثر في وجدان الطفل وعقله، فينسلخ من الفطرة السليمة، وينزلق نحو الأفكار والآراء العقيمة الهدامة التي تزج به في هاوية الإلحاد..

الإلحاد في أسماء الله عزو جل

من معاني الإلحاد في القرآن الكريم الإلحاد: الإلحاد في أسماء الله عزو جل وهو أنواع:

1) أن يشتق من أسمائه تعالى أسماء الأصنام

كما فعل المشركون في اشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز، فسموا بها أصنامهم. فالأسماء الحسنى مختصة بالله جل ثناؤه، فلا يجوز نقل المعاني الدالة عليها إلى أحد من المخلقوين، قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: 180]. فلما اختص جل ذكره بالعبادة والألوهية الحقة، فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله تقدست أسماؤه ميل بها عما يجب فيها1(1) السيد العربي ابن كمال: توحيد الأسماء والصفات، مجلة البيان، عدد 252، ص 12..

كما لا يجوز أن يوصف أحد من الخلق بصفة فيها نوع مشاركة لله تبارك وتعالى في أسمائه وصفاته: كملك الملوك، وقاضي القضاة، وحاكم الحكماء، وسلطان السلاطين، وأمير الأمراء، وذلك حفظا للتوحيد وسدّا للذريعة، حتى لا يظن مشاركة أحد لله سبحانه وتعالى في شيء من خصائصه. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله عز وجل2(2) أخرجه مسلم في كتاب الأدب، رقم 2143، 3/1688..

2) تسميته عز وجل بما لم يسم به نفسه

لأن هذا من القول على الله بغير علم: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف: 33]. ومثال هذا النوع من الإلحاد تسمية الفلاسفة الله جل في علاه بأنه (العلة الفاعلة)، وتسميته النصارى عباد الصليب له (سبحانه عما يقولون) باسم (الأب)3(3) السيد العربي: توحيد الأسماء والصفات، ص 12.، وتسمية الماسون الله جل ذكره بـ (المهندس الأعظم)، وقول العامة: (الله الفنان)4(4) زين محمد شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص 39..

ومن هذا النوع أيضا تسمية الله جل ثناؤه بما لا يليق به كتسميته بالمضل والفاتن والماكر والمستهزئ والكايد، وغير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى ولا يدخل تحت أسمائه الحسنى. فلا يطلق على الله تقدست أسماؤه مثل: المكر، والخداع، والانتقام، والاستهزاء، والكيد، وإنما يذكر هذا مقيدا. فلا يقال: الله مستهزئ على سبيل الإطلاق؛ لأن الاستهزاء في ذاته منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم. فلا يذكر إلا مقيدا، فيقال: الله يستهزئ بمن يستهزئ به. وهذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة5(5) المرجع السابق نفسه، ص 39-40..

3) ومن الإلحاد وصفه تبارك وتعالى بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص

كقول أخبث اليهود: إنه فقير، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: يده مغلولة، وغير ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته، ويتقدس عنه الحق سبحانه وتعالى6(6) السيد العربي: توحيد الأسماء والصفات، ص 12..

4) إنكار شيء من الأسماء أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام

ومثال ذلك من ينكر الأسماء مطلقا، كما فعل أهل الجاهلية في إنكارهم اسم الرحمن، أو من يثبت الأسماء ولكن ينكر ما تضمنته من الصفات كما يقول بعض المبتدعة: إن الله رحيم بلا رحمة سميع بلا سمع… تعالى الله وسبحانه عما يقولون علو كبيرا. فتعطيل الأسماء من معانيها وجحد حقائقها من أعظم الإلحاد شرعا وعقلا ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه7(7) المرجع السابق نفسه، ص 12..

5) ومن الإلحاد في أسمائه تشبيه صفاته بصفات خلقه

تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرا. وهذا الإلحاد في مقابل إلحاد المعطلة؛ فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه، فتشبيه الله عز وجل بخلقه كفر كونه تكذيبا، لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11]8(8) شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص 40..

وفي هذا السياق قال نعيم بن حماد الخزاعي: “من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به الله نفسه فقد كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه”9(9) الذهبي: سير أعلام النبلاء، 10/610..

على أن الإلحاد بجميع أنواعه محرم وزيغ وضلال؛ لأن الله جل ذكره توعّد الملحدين في أسمائه فقال: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون بما كانوا يعملون) [الأعراف: 180].

وتجدر الإشارة هاهنا إلى أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وورثته القائمين بسنته برّأهم الله جل ثناؤه من الإلحاد وأنواعه، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما جاءت به لفظا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات وأمَرُّوهَا كما جاءت، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، فكان إثباتهم للصفات بريئا من التشبيه، وتنزيههم الله تعالى خاليا من التعطيل، لا كمن شبه كأنه يعبد صنما أو عطل كأنه يعبد عدما. فهم وسط في النِّحَل، كما أن الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم: (من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية كاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء) [النور: 35].

الإلحاد في آيات الله الكونية

ومن معاني الإلحاد في القرآن الكريم الإلحاد في آيات الله الكونية، وهي ظاهرة باهرة واضحة للعيان، لا مجال للمغالطة فيها والكفر بها عنادا وتكذيبا واستهزاء.

والإلحاد في آيات الله الكونية: الميل بها عن الصواب بأي وجه كان، إما بإنكارها وجحودها وتكذيب من جاء بها، وإما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي. فتوعد الله تعالى من ألحد في آياته وحججه وأدلته بأنه لا يخفى عليه، بل هو مطلع على ظاهره وباطنه، وسيجازيه على إلحاده بما كان يعمل10(10) عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 883..

ولقد جرى العرف في عصرنا هذا أن تستعمل كلمة (ملحد) للمائل عن الاستقامة بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى أو بإنكار حكم من أحكام الإسلام القطعية في النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأخلاقية. والملحد شخص عطل وسائل الإدراك فيه وهي: العقل والسمع والبصر، وإلا فوجود الله عز وجل من البداهات التي يدركها الإنسان ويهتدي إليها بفطرته وعقله، وليس ذلك من مسائل العلوم المعقدة: (أفي الله شك فاطر السموات والأرض) [إبراهيم: 10].

فالله عز وجل يعرف بالله سبحانه، والأشياء كلها تعرف بالله جل جلاله، وتزيد معرفته تقدست أسماؤه بالنظر في مخلوقاته. فالمسلم إذا نظر في مخلوقات الله تعالى وتأمل فيها يرى عجبا في الآفاق والأنفس، مثل دورات الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم والجبال والبحار، وأصناف لا تحصى من النباتات والحشرات والطيور والزواحف والحيوانات. وإذ تفكر في نفسه رأى الخلايا وهي تعد بمئات الملايير تعمل بانتظام مدهش، وتقوم بوظائفها على أكمل وجه في بدنه الذي يحوي أجهزة معقدة ومتنوعة الخصائص: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الروم: 30].

الأدلة الدامغة لإثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى

والقرآن الكريم لفت نظر الإنسان إلى توحيد الدلائل من عدة طرق منها:

1) الفطرة

فالتدين فطرة فطر الإنسان عليها، لقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) [الروم: 30].

والإنسان لديه استعداد فطري للتدين والاعتراف بالحق، لقوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) [الزخرف: 9]. ثم يصور لنا الكتاب العزيز الحالة النفسية للبشر عندما تحيط بهم الخطوب وتشتد بهم الكربات فيعودون في هذه الحالة إلى فطرتهم الأولى النقية: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض وناء بجانبه، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) [فصلت: 51]11(11) شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص 52-53..

على أن الإيمان بالله عز وجل فطرة فُطِرَ الناس عليها مادام الإنسان يعيش في بيئة اجتماعية سوية، مستقيما في تفكيره، متحررا من سلطات الوهم والخرافة والهوى. أما إذا كانت البيئة الاجتماعية منحرفة، فإنها تؤثر في وجدان الطفل وعقله، فينسلخ من الفطرة السليمة، وينزلق نحو الأفكار والآراء العقيمة الهدامة التي تزج به في هاوية الإلحاد، فيكون مصيره العطب والهلاك.

2) العقل

إن إيقاظ العقل ليتأمل في الكون المحيط إحدى وسائل القرآن العظيم التوجيهية في الدلالة على الله عز وجل ، والتعرف عليه من خلال مخلوقاته، فيرى الإنسان في كيفية الخلق: صفات كمال الله عز وجل ، ونعوت جلاله، ومظاهر عظمته، ونفوذ قدرته، وتفرده بالخلق والإبداع.

والأمثلة على هذا في القرآن الكريم كثيرة، كقوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) [العنكبوت: 20]، وقوله جل ذكره: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت) [الغاشية: 17-20].

والذي ينظر في الكون المحيط يجد كل شيء فيه محكما متقنا مرتبا: السموات والأرض، والجبال والبحار والإنسان، وسائر المخلوقات، كل هذه المخلوقات محكمة متقنة منظمة، فمن الذي أحكم صنعها وأتقنها ونظمها وهيمن عليها؟ إنه الله جل جلاله: (صنع الله الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون) [النمل: 88].

3) العلم

وأما دليل العلم، ففي كل يوم يكتشف العلماء بسبب تقدم وسائل التقنية أسرارا جديدة تبرهن على وجود الله الحكيم العليم الذي أعطى كل شيء خلقه فهدى، وخلق كل شيء فقدره تقديرا، فجميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه وتعالى، ويدل على قدرته العظيمة التي تبهر الألباب.

وما يقوم به العلماء من تحليل لظواهر الكون ودراستها لا يتعدى أكثر من ملاحظة عظمة الله تعالى في خلقه؛ إذ يقرون بأن العلوم ما هي إلا دراسة مخلوقات الله وآثار قدرته. بل كلما ازداد الإنسان علما ازداد يقينا بوجود البارئ سبحانه وتعالى. وفي هذا العصر الذي بلغ فيه العلم شأوا بعيدا في مجال المعرفة، خاصة الجانب المادي منها، نجد كثيرا من العلماء التجريبيين يزدادون إيمانا بالله عز وجل. وفي هذا السياق حلل دينريت (Denret) الآراء الفلسفية لأكابر العلماء بقصد أن يعرف عقائدهم، فتبين له من دراسة 290 عالما أن 242 منهم أعلنوا إيمانهم الكامل بالله تعالى12(12) السيد سابق: العقائد الإسلامية، ص 49..

وهكذا، فإن الإنسان حين يبحر في قارب العلم عبر محيطات المعرفة، ويتأمل في مخلوقاته عز وجل ، وفي كيفية الخلق، فإنه يهتدي إلى معرفة الله تعالى والإيمان به، فتزداد محبته لله عز وجل: (والذين آمنوا أشد حبا لله) [البقرة: 165]، فيعتز به سبحانه ولا يعتز بسواه، فكل ما حوله مخلوقات مثله سخرها الخالق الرزاق المدبر له، وجعله بما منحه من قدرات عقلية وإمكانيات علمية أهلا للتكليف، والوعي بما يجري حوله، والفهم لمراد الله تعالى، وإدراك القصد والغاية من الحياة وهي: عبادة الله وطاعته وإعمار الأرض وفق منهجه وشرعه المنزل.

بل إن وجودنا ودوام هذا الوجود وكماله وجماله من الله عز وجل. فلا يتصور من العبد العاقل الكيس أن يحب نفسه وأهله، ويحب نعم الدنيا، ولا يحب ربه سبحانه وتعالى الذي به قوام نفسه وكل ما يحيط به، وهو مصدر النعم كلها التي لا تنقطع ليل نهار!! فالحمد لله رب العالمين أولا وآخرا، ودائما وأبدا.

الهوامش

(1) السيد العربي ابن كمال: توحيد الأسماء والصفات، مجلة البيان، عدد 252، ص 12.

(2) أخرجه مسلم في كتاب الأدب، رقم 2143، 3/1688.

(3) السيد العربي: توحيد الأسماء والصفات، ص 12.

(4) زين محمد شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص 39.

(5) المرجع السابق نفسه، ص 39-40.

(6) السيد العربي: توحيد الأسماء والصفات، ص 12.

(7) المرجع السابق نفسه، ص 12.

(8) شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص 40.

(9) الذهبي: سير أعلام النبلاء، 10/610.

(10) عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 883.

(11) شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص 52-53.

(12) السيد سابق: العقائد الإسلامية، ص 49.

اقرأ أيضا

تقريرات واجبة لمواجهة ظاهرة الإلحاد

أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته

فضح الزنادقة والملحدين

مؤسسة تكوين المعادية للدين

قضية ولا أبا بكر لها

التعليقات غير متاحة