تظهر ظواهر الإلحاد، وهي كاذبة في أدلتها، تكمن خلفها أزمات نفسية واجتماعية، وتمهد لها معاصي، ويشقى صاحبها؛ ولكن ثمة علاج ودواء في هذا الدين.

مقدمة

معرفة الله والإقرار بوجوده، والتوجه اليه بالحب والعبادة؛ هي أمور فطرية، فُطرت عليها النفوس كما فُطر ابن آدم على الْتقام ثدي أمه. بل معرفة الله والإقرار به ومحبته وعبادته وتوحيده أعمق وأشد ركوزا ورسوخا في الفطرة.

لكن ثمة عوارض طارئة تتنوع بين المعاصي والانهماك فيها، والجهل في بعض البيئات بهذا الدين، والتاثر بالغرب وتوجيهاته المنحرفة والحرمان من التوجيه الرباني، وكذلك الأزمات النفسية والإخفاقات الاجتماعية؛ كثير من هذه السباب تكمن خلف ظاهرة الإلحاد.

لكن في كتاب الله تعالى دواء ناجع يخاطب الفطرة لمن عقَلَ خطاب ربه.

سبب الدراسة

نقل لي بعض الإخوة صورة مفزعة عن بعض من قابلوه من الشباب أو سمعوه ورأوه في بعض مواقع الشبكة العنكبوتية؛ من ظهور مواقف إلحادية تشكيكية تتبناها قِلة من شباب الأمة خلت قلوبهم من معرفة الله، عز وجل، وتعظيمه ومعرفة أسمائه وصفاته الحسنى، ووافق ذلك هوى في النفوس أفرز لديهم بعض الشكوك والامتراء في بعض أصول الإيمان الستة (الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر)؛ وإبراء للذمة، ونصحاً لمن وقع من شباب الأمة في هذه الملمة أود تسجيل التقريرات الآتية:

تقريرات لحقائق

التقرير الأول: خطورة الموقف

أنصح في هذا التقرير من وقع في هذه الآفة الخطيرة أن يشعر أولاً بخطورة ما هو فيه، وأنه أمر كارثي، نهايته العذاب السرمدي يوم القيامة إن لم يتوبوا ويعرفوا لله قدره وتعظيمه.

إنهم بذلك إنما يضرون أنفسهم، والله غني عنهم وعن عبادتهم وأعمالهم، ولن يضروا الله شيئاً، وأذكّرهم بقوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الزمر: ٧].

كما أذكّرهم بقوله صلى الله عليه وسلم  في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه سبحانه: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً». (1رواه مسلم)

التقرير الثاني: الحقيقة الدافعة للإلحاد

باستقراء أحوال كثير من هؤلاء الذين مرضت قلوبهم وثارت فيها الشكوك والاعتراضات والشبهات فأصغَوْا إليها واقترفوا بسببها ما هم مقترفون، نجد أن أغلبهم ـ وباعتراف بعضهم ـ قد مرّوا في حياتهم الاجتماعية بأمراض وظروف نفسية من القلق والاكتئاب، اضطرب بسببها تفكيرهم وتشوشت بها عقولهم وفطرهم.

وبدلاً من أن يعالجوا هذه الأمراض النفسية من جذورها راحوا يُسقطون معاناتهم على التشكيك في مسائل الإيمان والغيب، واستغل الشيطان الرجيم ضعفهم هذا، فأزّهم إلى هذه الشكوك والشبهات أزّاً، وزيّنَها لهم في عقولهم المشوشة.

التقرير الثالث: وضوح الحق وظهوره

إن أصل الأصول في أركان الإيمان: الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فإذا استقر هذا الإيمان في القلب لزم عليه الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر وأخباره كلها والإذعان لأحكامه كلها قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 511]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.

والمقصود أن الإيمان بالله هو أصل الأصول، وبتحقيقه تتحقق بقية الأصول والأحكام.

ولذلك لن نطيل الكلام في إثبات أمر تدل عليه الفطرة والعقل والحس والسمع، وأكتفي بما قاله الله تعالى وهو يخاطب عقول الجاحدين وذلك في بضع كلمات بينات: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 35 – 36].

جاء في صحيح البخاري أن جبير بن مطعم قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ كاد قلبي أن يطير».

أي: لظهور الحق ووضوح بطلان الباطل.

وتكفينا هذه الآية حجة عقلية على الملاحدة والدهريين، ولا حاجة لنا بعدها إلى كلام أهل الفلسفة والمنطق في ردهم على الملاحدة بـ “واجب الوجود” و”ممكن الوجود” وغير ذلك من فلسفة أهل الكلام وسفسطاتهم.

التقرير الرابع: الإيمان بالله، بداهةٌ وأصل الأصول

إذا استقر الإيمان بالله في القلب وأنه المتفرد بالربوبية والألوهية والأسماء الحسنى والصفات العُلَى، وعرف العبد ربه المعرفة التي يعرف بها عباده في كتابه وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، دخل الإيمان والسعادة من بابها وأساسها، ووجد العبد نفسه مؤمناً منقاداً لبقية أصول الإيمان وأركانه.

حيث إن من مقتضيات الإيمان بالله، عز وجل: تصديقه في أخباره، والإذعان له في أحكامه، ومن أخباره سبحانه في كتابه: ما أخبر به عن ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، فلزم من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به عن نفسه من الأركان الخمسة الباقية، ومن كفر بشيء منها كفر بالله؛ لعدم تصديقه في أخباره.

فالإيمان بالله، عز وجل، هو أصل الأصول، وبابُها الذي يدخل منه على الإيمان ببقية الأركان والأصول، ولكن قد تجول في القلب عند بعض المتأثرين بشبهات خصوم هذا الدين بعض الشبهات حول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحول القرآن وأنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم وليس من عند الله، عز وجل.

وهذه الشبهة ساقطة من أصلها عند من آمن بالله وأنه عظيم قادر، حكيم عادل رحيم، له الأسماء الحسنى.

وقد فنّد هذه الشبهة أهل العلمُ في القديم والحديث من وجوهٍ كثيرة. وهذه الشبهة لا تستحق الرد كما قال الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيء .. إذا احتاج النهار إلى دليل

 التقرير الخامس: نصائح للمبتلين بالوساوس والشكوك

في هذا التقرير أتوجه بالنصح لكل من وقع في شيء من هذه الوساوس والشكوك بالنصائح التالية:

النصيحة الأولى: اللجأ الى الله

الْجأ إلى الله واسألْه وتضرع إليه في أوقات الإجابة إلى أن يهديك ويثبتك على دينه، وأكثِر من الاستعاذة والاستجارة بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم.

النصيحة الثانية: تأمل النصائح

تأمل ما ورد في التقارير السابقة بعقل متزن غير مشوش، فلعل الله أن يهديك بسببها.

النصيحة الثالثة: مقاطعة أهل الشبهات

قاطع مجالس أهل الشبهات ومواقعهم وكتبهم وابتعد عنها، فكم كانت سبباً في زيغ القلوب قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].

النصيحة الرابعة: الإلحاد شقاء

اعلم أن نعيم الروح وسعادتها في الدنيا والآخرة هو في الإيمان وعبادة الله وحده لا شريك له، وأن التعاسة والشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة لمن أعرض عن الله والإيمان به، والواقع يشهد بذلك، فلقد صرح كثير ممن يعيشون هذه الخواطر الرديئة بأنهم يعيشون في عذاب وعناء وشقاء لا يعلمه إلا الله.

النصيحة الخامسة: تدبر آيات الله

تأمل معي وتدبر هذه الآيات الكريمات التي تهزّ القلوب الحية، ولو أنزلت على جبل لرأيته خاشعا متصدعاً:

قال الله، عز وجل: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]، وقال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ [الكهف: 37]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [فصلت: ٩].

خاتمة

وأختم بآيات من سورة آل عمران، تزلزل القلوب، وتهدد من أصرّ على ضلاله وعناده بعد أن بانت له الحجج والبينات ثم لم يهتد واتبع هواه، وأن الله، عز وجل، قد يحول بينه وبين التوبة والهداية عياذاً بالله تعالى:

قال الله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 86 – 91].

…………………………………..

الهوامش:

  1. رواه مسلم.

 رابط الدراسة كاملة:

 المصدر:

  •   مجلة البيان العدد  355 ربيـع الأول  1438هـ، ديـسـمـبـر  2016م.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة