هذه مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غناء لمسلم عن معرفتها.
وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ … وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ
وأهم ما فيها وأشده خطرا عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان دين الجاهلية والإيمان به تمت الخسارة والعياذ بالله تعالى، كما قال عز ذكره: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [العنكبوت: 52]
أن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد
إن دينهم مبني على أصول: أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار من الأولين والآخرين كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الزخرف: 23 – 24] فأمرهم الله تعالى بقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3]
وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) [البقرة: 170] قال: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170] . . . إلى غير ذلك مما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا في ربقة التقليد، لا يُحكِّمون لهم رأيا، ولا يُشغِلون فكرا؛ فلذلك تاهوا في أودية الجهالة، وهكذا كل من سلك مسلكهم في أي عصر كان1(1) وقد مشى على هذا المسلك الجاهلي من يفرض تقليد الأئمة والعلماء على المسلمين، ويقول إنه واجب شرعي، من المنتسبين للعلم والفتوى أصلحهم الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله..
الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم
الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم فحذرهم الله تعالى من ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 34] وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة: 77] . . . إلى آيات أخر تنادي ببطلان الاقتداء بالفساق وأهل الضلالة والغي، وذلك من سَنَن الجاهلية وطرائقهم المعوجة .
الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة
الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة من غير تحكيم العقل، والأخذ بالدليل الصحيح وقد أبطل الله تعالى ذلك بقوله: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) [طه: 49 – 54] إلخ.
وقال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [القصص: 36 – 37].
وقال عز ذكره: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون: 23 – 25]
وقال تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) [ص: 6 – 7]
فجعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم، ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم، وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم أعين يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تعليله، وهكذا أخلافهم وَوُرَّاثهم، قد تشابهت قلوبهم.
الاعتماد على الكثرة والاحتجاج بالسواد الأعظم
السابعة الاعتماد على الكثرة، والاحتجاج بالسواد الأعظم، والاحتجاج على بطلان الشيء بقلة أهله فأنزل الله تعالى ضد ذلك وما يُبْطِله، فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 116 – 117]
فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب، فالحق أحق بالاتباع وإن قل أنصاره كما قال تعالى: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص: 24] فأخبر الله عن أهل الحق أنهم قليل، غير أن القلة لا تضرهم:
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا … فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلٌ
فالمقصود أن من له بصيرة ينظر إلى الدليل، ويأخذ ما يستنتجه البرهان وإن قل العارفون به، المنقادون له، ومن أخذ ما عليه الأكثر، وما ألِفَتْهُ العامة من غير نظر الدليل فهو مخطئ، سالك سبيل الجاهلية، مقدوح عند أهل البصائر.
الاستدلال على بطلان الشيء بأخذ الضعفاء به
الحادية عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بأخذ الضعفاء به، وضعف فهم من أخذ به، على ما يدل عليه قول قوم نوح له كما حكاه عنهم الكتاب الكريم
قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الشعراء: 105 – 115].
فانظر إلى قوم نوح كيف استنكفوا من اتباع نبيهم لسبب اتباع الضعفاء له، وذلك لكون مطمح أنظارهم الدنيا، وإلا لو كانت الآخرة همهم لاتبعوا الحق أينما وجدوه، ولكن لجاهليتهم أعرضوا عن الحق لاتباع شهواتهم.
وانظر إلى هِرَقْلَ لما كان من العقل والبصيرة على جانب عظيم اعتقد اتباع الضعفاء دليلا على الحق، «فقال في جملة ما سأل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ” وسألتك عن أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل»2(2) متفق عليه: رواه البخاري في (بدء الوحي: 7) واللفظ له، من غير لفظه: ” عن “، وبنحوه مسلم في (الجهاد: 4607) ..
ومثل ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود: 25 – 27] الآيات.
رميُ من اتبع الحق بعدم الإخلاص وطلب الدنيا
الثانية عشرة من خصال أهل الجاهلية: رميُ من اتبع الحق بعدم الإخلاص، وطلب الدنيا فرد الله عليهم بقول نبيهم الذي حكاه الله عن نوح في الآية الأولى المذكورة في المسألة الحادية عشرة بقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) [الشعراء: 111 – 113] .
ومقصودهم أن أتباعك فقراء، آمنوا بك؛ لينالوا مقصدهم من العيش، لا أن إيمانهم كان لدليل يقتضي صحة ما جئت به؛ فلهذا رد عليهم بما رد.
الإعراض عن الدخول في الحق الذي دخل فيه الضعفاء تكبرا وأنفة
الثالثة عشرة من خصال أهل الجاهلية: الإعراض عن الدخول في الحق الذي دخل فيه الضعفاء؛ تكبرا وأنفة
فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 52 – 53] ومثل ذلك قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) [عبس: 1 – 2] وغير ذلك.
وحاصل الرد أن من آمن من هؤلاء الضعفاء إنما كان إيمانه عن برهان، لا كما زعم خصومهم، ولست أنت بمسؤول عنهم، ولا هم مسؤولون عن حسابك، فطردُهم عن باب الإيمان من الظلم بمكان.
الاستدلال بالقياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح وجهلهم بالجامع والفارق
الخامسة عشرة الاستدلال بالقياس الفاسد، وإنكار القياس الصحيح، وجهلهم بالجامع والفارق قال تعالى: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون: 24 – 25].
ومعنى الآية: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) [المؤمنون: 23] شروع في بيان إهمال الناس، وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم قبل هذه الآية، وما حاقهم من زوالها، وفي ذلك تخويف لقريش، وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، فقال متعطفا عليهم، ومستميلا لهم إلى الحق: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) [المؤمنون: 23] أي: اعبدوه وحده، (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [المؤمنون: 23] استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها، (أَفَلَا تَتَّقُونَ) [المؤمنون: 23] الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أتعرفون ذلك، أي: مضمون قوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده، وإشراككم به عز وجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله إياه، فضلا عن استحقاق العبادة، فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه، (فَقَالَ الْمَلَأُ) [المؤمنون: 24] أي: الأشراف الذين كفروا من قومه، وُصِفَ الملأ بالكفر مع اشتراك الكل فيه: للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التميز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام، أو لم يؤمن به أحد من أشرافهم، كما يفصح عنه قوله: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) [هود: 27] وهذا القول صدر منهم لعوامهم، (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون: 24] أي: في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه، وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية، وحطها عن منصب النبوة، ووصفوه بقوله سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون: 24] إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام، وإغراء لهم على معاداته، والتفضل: طلب الفضل، وهو كناية عن السيادة، كأنه قيل: يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) [المؤمنون: 24] بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام.
أي: ولو شاء الله تعالى إرسال الرسل لأرسل رسلا من الملائكة، وإنما قيل: لأنزل لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال، (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 24] هذا إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل، خاصة والكلام على تقدير مضاف، أي: ما سمعنا بهذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد؛ فإن السماع بمثله كاف في القبول، (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون: 25] أي: ما هو إلا رجل به جنون أو جن يخبلونه؛ ولذلك يقول ما يقول، (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون: 25] أي: فاحتملوه، واصبروا عليه، وانتظروا لعله يفيق مما هو فيه: محمول على مرامي أحوالهم في المكابرة والعناد، وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية، وإرادة التفضل، إلى وصفه بما ترى، وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا، وأرزنهم قولا، وهو محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة – قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون -.
والقياس الفاسد والصحيح، والجامع والفارق مفصل في كتب الأصوليين.
فبين الرسل عليهم السلام وسائر الناس مشابهة من جهة البشرية ولوازمها الضرورية، فيصح حينئذ قياس الرسل على غيرهم فيها، وعليه قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف: 110]
وبين الرسل والأنبياء عليهم السلام وغيرهم من البشر فروق كثيرة:
منها: أن الله تعالى اصطفاهم على الناس برسالاته وبكلامه ووحيه، فلا يقاس أحد من الناس بهم حينئذ من هذه الجهة، كما لا يصح قياس غيرهم بهم في سائر خصائصهم التي فُصِّلَتْ في غير هذا الموضع، فالجاهلية لم يميزوا بين القياس الصحيح والفاسد، ولا عرفوا الجامع ولا الفارق، كما سمعت من قياسهم الرسل على غيرهم، وهكذا أتباعهم اليوم ومن هو على شاكلتهم.
الهوامش
(1) وقد مشى على هذا المسلك الجاهلي من يفرض تقليد الأئمة والعلماء على المسلمين، ويقول إنه واجب شرعي، من المنتسبين للعلم والفتوى أصلحهم الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(2) متفق عليه: رواه البخاري في (بدء الوحي: 7) واللفظ له، من غير لفظه: ” عن “، وبنحوه مسلم في (الجهاد: 4607) .
المصدر
كتاب: “فصل الخطاب في شرح (مسائل الجاهلية، التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله)” أبو المعالي محمود شكري الألوسي.