هذه مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غناء لمسلم عن معرفتها.

وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ … وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ

وأهم ما فيها وأشده خطرا عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان دين الجاهلية والإيمان به تمت الخسارة والعياذ بالله تعالى، كما قال عز ذكره: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [العنكبوت: 52]

الثالثة والعشرون: معاداة الدين الذي انتسبوا إليه أشد العداوة وموالاتهم لمذهب الكفار

الثالثة والعشرون وهي من أعجب المسائل والخصال: معاداة الدين الذي انتسبوا إليه أشد العداوة، وموالاتهم لمذهب الكفار الذين فارقوهم أكمل الموالاة

كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاهم بدين موسى، واتبعوا كتب السحر، وهو من دين آل فرعون.

ومثل هؤلاء في الأمة الإسلامية كثير، هجروا السُّنَّة، وعادوها، ونصروا أقوال الفلاسفة وأحكامهم.

الرابعة والعشرون: عدم قبولهم من الحق إلا ما قالته طائفتهم والكفر بما مع غيرهم من الحق

الرابعة والعشرون أنهم لما افترقوا – وكل طائفة لا تقبل من الحق إلا ما قالته طائفتهم – كفروا بما مع غيرهم من الحق.

قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].

ولا شك أن هذه من الخصال الجاهلية، وعليه اليوم كثير من الناس، لا يعتقد الحق إلا معه، لا سيما أرباب المذاهب، يرى كل أهل مذهب أن الدين معه لا يعدوه إلى غيره، و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]

والحزم أن ينظر إلى الدليل، فما قام عليه الدليل فهو الحق الحريُّ أن يُتَلَقَّى بالقبول، وما ليس عليه برهان ولا حجة يُنْبَذ وراء الظهور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويُرَد إلا من اصطفاه الله لرسالته.

الخامسة والعشرون: ادعاء كل فرقة أنها هي الناجية

الخامسة والعشرون أنهم لما سمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الافتراق: «وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» ادعى كل فرقة أنها هي الناجية، كما حكى الله عن اليهود والنصارى في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113].

مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بَيَّنَ في آخر الحديث المراد من الفرقة الناجية، فقال: «وهم ما كنت أنا عليه وأصحابي» أو كما قال1(1) رواه بلفظ: ” ما أنا عليه وأصحابي ” الترمذي في جامعه (كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة: 2641) – وهو حديث حسن – وغيره في غيره..

ورد الله تعالى عليهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 – 112].

والمقصود أنهم ليس لهم برهان على هذه الدعوى، بل الدليل على خلاف ذلك.

وأبو العباس تقي الدين تكلم على حديث الفِرَق في كتابه ” منهاج السنة ” بما لا مزيد عليه، حيث استدل به الرافضي على حقية مذهبه وبطلان مذهب أهل السنة، فراجعه إن أردته2(2) منهاج السنة النبوية (3 / 443 – 506) ..

الثامنة والعشرون: التعبد بتحريم الحلال

الثامنة والعشرون التعبد بتحريم الحلال فَرَدَّ الله تعالى ذلك عليهم بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 – 33].

ومعنى الآيات: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: ثيابكم لمواراة عوراتكم عند طواف أو صلاة.

وسبب النزول: أنه كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة، حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة، فتعلق على سُفْلها سُيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الْحُمْر من الذباب، وهي تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله … وما بدا منه فلا أحله

فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} مما طاب لكم3(3) روى مسلم في (التفسير: 7551) عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: مَنْ يُعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله … فما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ..

قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى الآية.

وفيه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا.

{وَلَا تُسْرِفُوا} بتحريم الحلال، كما هو المناسب لسبب النزول.

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} بل يبغضهم، ولا يرضى أفعالهم.

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} من الثياب وكل ما يُتَجَمَّل به، وخلقها لنفعهم من الثياب كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف.

{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} أي: المستلذَّات، وقيل: المحلَّلات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها.

{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: هي لهم بالأصالة لمزيد كرمهم على الله تعالى والكفرة – وإن شاركوهم فيها – فبالتبع، فلا إشكال في الاختصاص.

{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: لا يشاركهم فيها غيرهم.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لمن يعلم ما في تضامينها من المعاني الرائقة.

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} أي: ما تزايد قبحه من المعاصي، ومنه ما يتعلق بالفروج.

{مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بدل من الفواحش، أي: جهرها وسرها.

وعن البعض: {مَا ظَهَرَ} الزنى علانية، {وَمَا بَطَنَ} الزنى سرا 4(4) وهذا أحد أقوال ابن عباس في الآية، وبه قال سعيد بن جبير، كما في زاد المسير (3 / 34). وكانوا يكرهون الأول، ويفعلون الثاني، فنهوا عن ذلك مطلقا.

وعن مجاهد: {مَا ظَهَرَ} التعري في الطواف، {وَمَا بَطَنَ} الزنى.

والبعض يقول: الأول: طواف الرجال بالنهار، والثاني: طواف النساء بالليل عاريات.

{وَالْإِثْمَ} أي: ما يوجب الإثم، وأصله الذم، ثم أطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب، وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش.

ومنهم من قال: إن الإثم هو الخمر، وعليه أهل اللغة وأنشدوا له قول الشاعر:

نهانا رسول الله أن نقرب الزنى … وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وقول الآخر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي … كذاك الإثم يذهب بالعقول

الثالثة والسبعون: دعواهم محبة الله مع ترك شرعه

الثالثة والسبعون دعواهم محبة الله مع ترك شرعه فطالبهم سبحانه بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

قال الحسن وابن جريج: «زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يحبون الله، فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية»5(5) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 232) ..

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: «وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشُّنوف6(6) جاء في حاشية المطبوع ما نصه: ” الشنف: القرط الأعلى، أو معلاق في قوف الأذن، أو ما علق في أعلاها، جمعه شنوف، وما علق في أسفل الأذن: قرط “. وهم يسجدون لها، فقال: ” يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام “، فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله؛ لتقربنا إلى الله زلفى، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} إلخ»7(7) ذكره البغوي في تفسيره (1 / 293) ، وابن الجوزي في زاد المسير (1 / 373) ..

وفي رواية أبي صالح «أن اليهود لما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أنزل الله هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها»8(8) ذكر هذا الأثر الجوزي في زاد المسير (1 / 373) ..

وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ” نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح، نعبده حبا لله، وتعظيما له، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم”9(9) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 233) بنحوه..

وبالجملة: من تَلَبَّس بالمعاصي لا ينبغي له أن يدعي محبة الله، وما أحسن قول القائل:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه … هذا لعمري في القياس بديعُ

لو كان حبك صادقا لأطعته … إن المحب لمن يحب مطيع

الهوامش

(1) رواه بلفظ: ” ما أنا عليه وأصحابي ” الترمذي في جامعه (كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة: 2641) – وهو حديث حسن – وغيره في غيره.

(2) منهاج السنة النبوية (3 / 443 – 506) .

(3) روى مسلم في (التفسير: 7551) عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: مَنْ يُعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله … فما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) .

(4) وهذا أحد أقوال ابن عباس في الآية، وبه قال سعيد بن جبير، كما في زاد المسير (3 / 34).

(5) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 232) .

(6) جاء في حاشية المطبوع ما نصه: ” الشنف: القرط الأعلى، أو معلاق في قوف الأذن، أو ما علق في أعلاها، جمعه شنوف، وما علق في أسفل الأذن: قرط “.

(7) ذكره البغوي في تفسيره (1 / 293) ، وابن الجوزي في زاد المسير (1 / 373) .

(8) ذكر هذا الأثر الجوزي في زاد المسير (1 / 373) .

(9) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 233) بنحوه.

المصدر

كتاب: “فصل الخطاب في شرح (مسائل الجاهلية، التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله)” أبو المعالي محمود شكري الألوسي.

اقرأ أيضا

بعض المسائل التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية(1)

حمية الجاهلية

الرايـات الجـاهلية

ميزان الجاهلية للحرية والتقدم والتحضر

التعليقات غير متاحة