ظهرت سنن الله تعالى في الحياة البشرية ومجتمعاتها وجريان الحق ودعوته بين الانحرافات؛ ظهرت على يد الرسل الكرام، بما يعني لمن تدبر الرؤية والبصيرة في طريقه اليوم وهو يسلك مسلكهم الكريم بحمل الحق والدعوة اليه.
مقدمة
إنه لمن الواجب على الدعاة إلى الله عز وجل أن يقفوا عند تلك السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذا بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاةً مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء. وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عزجل، الذين هم أعرف الناس بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته؛ وبالتالي فهم أعرف بسننه سبحانه وعاداته وأيامه وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها.
من السنن المطردة في دعوة الأنبياء
بعض هذه السنن الثابتة من خلال دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومنها ما يلي:
العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندین
والشواهد من الأدلة والوقائع على هذه السنة كثيرة جدا، فمن ذلك قوله تعالى عقب قصة نوح عليه الصلاة والسلام: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49]. وقوله تعالى عن وصية موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هددهم فرعون بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم: ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].
وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 72] وقال عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود: 66-67] وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].
وما جرى من تحقق هذه السنة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله تعالى في الحاضر والمستقبل إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أُحُد فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى: ﴿…وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب: 62]، [الفتح: 23] فعمَّ كل سُنة له..”. (1جامع الرسائل والمسائل 1/ 54)
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
تعتبر هذه السنة من السنن الخالدة التي يتحمل البشر في ضوئها مسؤوليتهم فيما يقع لهم من خير أو شر؛ لأن الله عز وجل قد منح الإنسان قدرا من الحرية والاختيار، وشرح له أسباب النجاة وأسباب الهلاك، وأنزل عليه الكتب، وأرسل إليه الرسل. منه يبدأ التغيير؛ سواء إلى الشر أو إلى الخير. فإن كان الناس في شر وبلاء فإن الله عز وجل لا يزيل هذا الشر عنهم إلا بأن يأخذوا بأسباب النجاة فيغيّروا ما بأنفسهم بطاعة الله عز وجل وترك معاصيه التي هي أصل الشر والمصائب. وعلى العكس من ذلك: لو كان الناس في خير ونعمة ورخاء فإن حرمانهم من هذا الخير وحصول الشر لهم بعده إنما يأتي من أنفسهم حين يفرطون في طاعة الله ولا يشكرونه قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].
وإنه لجدير بالدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان وفي كل زمان أن يقفوا طويلا عند هذه السنة؛ فهي الأساس المهم والمنهج الصحيح للدعوة والتغيير، بل هي أم السنن الربانية في البناء والتغيير .
الابتلاء سنة جارية للمؤمنين
وهذه السنة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق، حيث تواردت بها الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم تشهد بذلك. ويكفي قوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1- 3].
وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة : 214].
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء. ثم الأمثل فالأمثل؛ فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة». (2الترمذي، ( 2400) في كتاب الزهد باب ما جاء في الصبر على البلاء. وقال : حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الجامع (1003))
وحكمة هذا الابتلاء عظيمة وفوائده في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفة، وعلى هذا ينبغي أن توطن النفوس على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.
كما يدخل تحت هذه السنة سنة المداولة بين الناس من الشدة إلى الرخاء ومن الرخاء إلى الشدة ومن إدالة الكفار على المسلمين للتمحيص والابتلاء.
قال تعالى: ﴿..وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140].
انهيار الأمم الظالمة وزوالها يكون بأجل
يقول الدكتور “السلمي” عن هذه السنة:
“قد يرى الناس موجِبات العذاب والانهيار قد حلت بأمة من الأمم ثم لا يرون زوالها بأنفسهم. وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف. لكن عمرها أطول من عمر الأفراد ولا تقع إلا بأجل محدد لا بد من استيفائه. قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34]. وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ [الكهف: 59]“. (3منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص 66)
سنة التدافع وسنة الصراع بين الحق والباطل
وهذه السنة أيضا من أهم السن الربانية التي يجب الوقوف عندها وعدم نسيانها أو الغفلة عنها. والمتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمس هذه السنة بوضوح وجلاء؛ قال الله تعالى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة طالوت وقتل داود جالوت (الكافر): ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]. وقال تعالى بعد إذنه سبحانه للمؤمنين بالقتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 39-40]
والصراع والمدافعة بين الحق والباطل وُجد منذ أن أهبط آدم عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض ومعه إبليس ـ الملعون ـ أعاذنا الله منه. واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين حزب الله عز وجل وحزب الشيطان.
وليس بالضرورة أن تكون المدافعة أو أن يكون الصراع بالقتال والسلاح؛ بل إنه يكون بغير ذلك، وما القتال إلا مرحلة من مراحل هذا الصراع. فإقامة الحجة على الباطل وأهله مدافعة، وإزالة الشبه عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، والصبر على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة وصراع. ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه المدافعة والصراع فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وما دام هناك حق وباطل فالصراع موجود والمدافعة حتمية. وهذا الصراع لصالح البشرية وخيرها ولو كان فيه من العناء والشدة والمكاره؛ فإن هذه المشقات كلها تهون وتصغر عند المفاسد العظيمة التي تنشأ فيما لو لم يكن هناك دفع للفساد وصراع مع الباطل. كما مَر بنا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ…﴾ [البقرة: 251] وهذا يفرض على أهل الحق السير على هذه السنة، وبذل الجهد الجهيد في مدافعة الباطل وأهله، وإحقاق الحق وتمكين أهله، وردّ البشرية الشاردة إلى عبودية الله عز وجل وتوحيده، وإنقاذها من الشرك ومفاسده، وهذا هو التدافع الذي يعنيه القرآن وقام به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
إنه الصراع الذي يزيل الفتنة بكل أشكالها، ويحرر البشر من عبادة غير الله عز وجل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].
خاتمة
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة ـ أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم. وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله إنهم بهذا التصرف لا يَسْلَمون من العناء والمشقة؛ بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وهذه هي ضريبة السكوت وفساد التصور وإيثار الحياة الدنيا؛ لأن الباطل والفساد لا يقبل في الأصل وجود الحق وأهله المصلحين ولا يطيق وجودهم معه ولو كانوا معتزلين له.. فهو يفرض المعركة والصراع عليهم فرضا، ولا يقبل منهم إلا الدخول معه في باطله ـ عياذا بالله تعالى ـ أو الخروج من أرضه وعدم معايشته.
……………………………
الهوامش:
- جامع الرسائل والمسائل 1/ 54.
- الترمذي : ( 2400) في كتاب الزهد باب ما جاء في الصبر على البلاء. وقال : حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الجامع (1003).
- منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص 66.