ثمة آفات تعتور جارحة اللسان ونعمة الكلام، يجب الحذر منها. منها ما دونه المتقدمون ومنه المشاهَد بالاستقراء للواقع وللأدلة الشرعية.
مقدمة
من الخير أن يضبط العبد لسانه، فهذه علامة صلاح وهي تؤدي الى استقامة العمل كما أخبر الله تعالى في كتابه وأمر. ولما اشتدت مراعاة السلف للّسان والقول أنه الأحق بطول الحبس والسجن، ومعاقبة النفس إن استرسلت مع آفاته؛ فكان من الخير أن نقف مع بعض آفات اللسان نعددها ونحذّر منها لئلا يغفل عنها مكلّف أراد أن يتوقى ما يهلك في الآخرة وأن يجتنب ما يكب الناس في النار على وجوههم بسببه.
من آفات اللسان المُهلكة
آفات اللسان ومخالفاته كثيرة أنقل منها ما ذكره ابن قدامة رحمه الله تعالى في «مختصر منهاج القاصدين» بشيء من الاختصار؛ وبعضها الآخر بالاستقراء من الشريعة والاعتبار بالواقع اليوم.
الكلام فيما لا يعني
واعلم أن من عرف قدْر زمانه، وأنه رأس ماله لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعني؛ لأنه مَن ترَك ذكْر الله تعالى واشتغل فيما لا يعني، كان كمن قدَر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها مَدَرَة، وهذا خسران العمر.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». (1رواه الترمذي في «الزهد» باب رقم (11)، وقال: حديث غريب، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (1886))
الخوض في الباطل
وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق. وأنواع الباطل كثيرة. (2ومنها تبنّي أقوال أهل الأهواء والبدع وأقوال النفاق وأهله، ونشرها بين الناس)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب». (3البخاري كتاب الرقاق، باب: حفظ اللسان رقم (6477))
وقريب من ذلك “الجدال” و”المراء”، وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك “الترفُّع”.
فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب؛ فإن قُبِل منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان الأمر معلقًا بالدين، فأما إذا كان في أمور الدنيا، فلا وجه للمجادلة فيه.
وعلاج هذه الآفة بكسر الكِبر الباعث على إظهار الفضل.
وأعظم من المراء “الخصومة”، فإنه أمر زائد على المراء.
التقعر في الكلام، وذلك يكون بالتشدق، وتكلف السجع
عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مِني يوم القيامة مساويكم أخلاقًا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون». (4أورده الألباني في «السلسلة الصحيحه» (792)، وعزاه للترمذي ( 1/363))
الفحش والسب والبذاء
ونحو ذلك، فإنه مذموم منهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم. وفي الحديث: «إياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش». (5أبو داود (5002)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في المزاح، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4182))
المزاح
أما اليسير منه، فلا يُنهى عنه إذا كان صدقًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقًّا، فإنه قال لرجل: «يا ذا الأذنين». (6أبو داود (5002)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في المزاح، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4182))، وقال لآخر: «إنا حاملوك على ولد الناقة». (7البخاري في «الأدب المفرد» (268)، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (3/ 1369))، وقال للعجوز: «إنه لا يدخل الجنة عجوز». (8الترمذي في الشماثل (ص197)، قال محققه: حسن، وحسنه الألباني في «غاية المرام» (ص215)) ثم قرأ: ﴿إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً﴾ [الواقعة: 35-36].. فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشياء:
أحدها: كونه حقًّا.
والثاني: كونه مع النساء والصبيان، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال.
والثالث: كونه نادرًا، فلا ينبغي أن يَحتجَّ به من يريد الدوام عليه، فإن حكم النادر ليس كحكم الدائم.
السخرية والاستهزاء
ومعنى السخرية: الاحتقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وكله ممنوع منه في الشرع، ورد النهي عنه في الكتاب والسنة.
إفشاء السر، وإخلاف الوعد، والكذب في القول واليمين
وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته، وفي الحرب، فإن ذلك يباح.
وضابطه: أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فيه مباح إن كان ذلك المقصود مباحًا، وإن كان المقصود واجبًا، فهو واجب؛ فينبغي أن يحترز عن الكذب مهما أمكن.
وتباح المعاريض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن في المعاريض مندوحة عن الكذب». (9البخاري في «الأدب المفرد» (885)، وضعفه الالباني في «ضعيف الجامع الصغير» برقم (1904)، وقد جاء بلفظ آخر موقوفًا على عمر رضي الله عنه: «أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب » وصحح هذا الأثر الشيخ الألباني في صحيح «الأدب المفرد» برقم (680))، وإنما تصلح المعاريض عند الحاجة إليها، فأما مع غير الحاجة فمكروهة لأنها تشبه الكذب.
الغيبة
وقد ورد الكتاب العزيز بالنهي عنها، وشبه صاحبها بآكل الميتة.
وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع اللهُ عورته، ومن تتبع اللهُ عورته يفضحه ولو في جوف بيته». (10الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في تعظيم المؤمن، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (1655))
النميمة
وهي نقْل الكلام بين الناس للإفساد، وإيغار صدورهم على بعض.
وما أكثر من يتعاطاها اليوم، محاولًا تبرير ذلك بالنصيحة، أو التحذير من الشر وأهله، أو غير ذلك من التلبيس والمغالطات، مع معرفة ما يترتب على القول بها من عذاب الله تعالى وسخطه.
الآفة العاشرة: قذف المحصنين والمحصنات
وقد عدها الرسول صلى الله عليه وسلم من الموبقات السبع التي ورد ذكرها في الحديث الصحيح: «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». (11البخاري (5/ 294)، ومسلم (89))
وسواء كان القذف صريحًا أو ترديدًا للشائعات، والتهم الباطلة، دونما تثبت وبرهان؛ فإن ذلك يعد ظلمًا وبهتانًا.
الكلام بما يخالف ما في القلب
وهذه الآفة من أخص صفات المنافقين عياذًا بالله من النفاق؛ حيث وصفهم الله عز وجل بقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 167].
ويلحق بهذه الآفة صاحب الوجهين الذي يلقى هؤلاء بوجه ولسان، ويلقى غيرهم بوجه آخر ولسان آخر، وصاحب هذا الوصف من أشد الناس، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه». (12البخاري (6058)، ومسلم (2526))
أكل أموال الناس بالباطل عن طريق اللسان
وهذا يكثر في البيوع المحرمة، كأن يصف السلعة بغير ما فيها، أو يبيع على بيع أخيه أو يزيد في سعر السلعة وهو لا يريد شراءها وهو النجش، أو يكذب في ذكر سعر شرائه للسلعة.
مدح الفساق والظلمة والثناء عليهم
لقد جاء النهي عن مدح الناس في وجوههم بعامة، ولكن يشتد النهي إذا كان ذلك للظلمة والفساق وهذه الآفة شعبة من شعب النفاق، وقد ظهرت بكثرة في هذه الأزمنة حتى طال شررها بعض المنتسبين للعلم والدعوة، وأصبحنا نسمع أو نقرأ كلامًا في مدح الظالمين والفساق شعرًا أو نثرًا.
ولا يخفى ما في هذه الآفة من الإثم الشديد على المتكلم بها، فوق ما فيها من تحمل آثام الناس الذين يضللون بتزيين صورة الظلمة والفساق في عيونهم، وأخطر ما في هذه الآفة أنها تضعف عقيدة الولاء والبراء في القلوب، وتنبت النفاق فيها.
آفة التناجي المنهي عنه
ومقصود به التناجي بين اثنين دون الثالث في حضوره.
التحدث باللغة الأعجمية لغير حاجة
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ولغة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والأصل في المسلم أن يتحدث بلغة القرآن الكريم، ولغة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا إذا لم يكن في مقدوره ذلك.
أما أن يتكلم كثير من الناس اليوم لغة الأعاجم وبخاصة اللغة الإنجليزية، مع أن لسانهم عربي فهذا منكر وانهزامية ومشابهة للكفار، إلا أن تكون هناك حاجة في دعوةٍ أو مخاطبةٍ لمن لا يعلم العربية، أو لقضاء حاجة أو منفعة، أو معرفة لحال الكفار وكيدهم، أو التجسس عليهم ونحو ذلك، فهذا شأن آخر.
القول بلا علم ولا عدل
يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الاسراء: 36] ويقول في الآية الأخرى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام: 152]؛ ففي الآية الأولى تحريم القول بلا علم وفي الثانية تحريم القول بلا عدل.
أقسام الناس أمام القول بعلم وعدل
والناس إزاء هذين القيدين الغليظين للقول أربعة أقسام:
الأول: مَن كان قوله بالعلم والعدل. وهؤلاء الكُمَّل من الناس، وقليل ما هم.
الثاني: من تكلم بعلم ولكن بدون عدل. وهذا مذموم؛ لأن عدم العدل قد يدفعه إلى كتمان العلم، أو لبسه بالباطل، أو وضعه في غير محله ومناطه، أو تأويله وتحريفه.
الثالث: من تكلم بعدل، لكن بلا علم وتثبُّت؛ فهذا أُتِيَ من جهله وتلقفِه للأخبار دون تثبت مما يقال ويسمع، لكن لديه من التقوى ما يمنعه من الظلم والميل مع هواه، وهذا أيضًا مذموم؛ لأنه قد يقول أو ينقل كلامًا مكذوبًا، أو يكون قد زيد فيه ونقص، ثم هو لم يتثبت من ذلك وتكلم بلا علم.
الرابع: من تكلم بلا علم ولا عدل وهو أشر الأقسام وأمقتها عند الله عز وجل.
فمن قال على الله ما لا يعلم، أو أفتى في دينه بغير علم، فقد تكلم بلا علم. أما إن كان يعلم مراد الله عز وجل ، لكنه أخفاه أو كتمه أو لبسه بالباطل، أو أوَّله ليتوافق مع هواه فقد قال على الله عز وجل بلا عدل.
الوقوع في بعض الألفاظ المنهي عنها
وذلك مثل:
قول: (ما شاء الله وشئت)، و(اللهم اغفر لي إن شئت)، و(لولا الله وأنت)، وقول: (خبثت نفسي). وقول: (هلك الناس). وقول: (يا خيبة الدهر).
وغير ذلك من الألفاظ المنهي عنها، وهي كثيرة جدًّا، ومنتشرة بين الناس ومن أراد الاستزادة من معرفة ذلك فليرجع إلى كتاب: «معجم النواهي اللفظية» للشيخ بكر أبو زيد حفظه الله تعالى.
خاتمة
سعِد من رزقه الله تعالى التنبه لهذه الافات وغيرها مما يجترحه اللسان إذ لا ينتبه الكثير له لسهولة عمل هذه الجارحة. ولكن التقوى حائل وحاجز كافٍ للمؤمن وكافٌ له عن اقتحام كلمة تغضب ربه أو تزيد عن حاجته.
……………………………..
الهوامش:
- رواه الترمذي في «الزهد» باب رقم (11)، وقال: حديث غريب، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (1886).
- ومنها تبنّي أقوال أهل الأهواء والبدع وأقوال النفاق وأهله، ونشرها بين الناس.
- البخاري كتاب الرقاق، باب: حفظ اللسان رقم (6477).
- أورده الألباني في «السلسلة الصحيحه» (792)، وعزاه للترمذي (1/ 363).
- أبو داود (4089)، وضعفه الألباني «في ضعيف أبي داود» (885).
- أبو داود (5002)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في المزاح، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4182).
- البخاري في «الأدب المفرد» (268)، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (3/ 1369).
- الترمذي في الشماثل (ص197)، قال محققه: حسن، وحسنه الألباني في «غاية المرام» (ص215).
- البخاري في «الأدب المفرد» (885)، وضعفه الالباني في «ضعيف الجامع الصغير» برقم (1904)، وقد جاء بلفظ آخر موقوفًا على عمر ﭭ: «أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب » وصحح هذا الأثر الشيخ الألباني في صحيح «الأدب المفرد» برقم (680).
- الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في تعظيم المؤمن، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (1655).
- البخاري (5/ 294)، ومسلم (89).
- البخاري (6058)، ومسلم (2526).