الخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله.

وقفة مع آية في ظلال القرآن

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: 68-70].

يقف سيد قطب -رحمه الله تعالى- عند هذه الآيات بعض الوقفات فيقول: «ونقف من الآية أمام عدة أمور:

أولها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم -وينسحب الأمر على كل مسلم- مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبًا ولهوًا.. وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل.. فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادًا وعبادة، وخلقًا وسلوكًا، وشريعة وقانونًا، إنما يتخذ دينه لعبًا ولهوًا.. والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافًا تدعو إلى اللعب واللهو، كالذين يتحدثون عن (الغيب) -وهو أصل من أصول العقيدة- حديث الاستهزاء، والذين يتحدثون عن (الزكاة) وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار، والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة -وهي من مبادئ هذا الدين- بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية، أو الإقطاعية، أو (البرجوازية) الزائلة! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار، والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها (أغلال!).. وقبل كل شيء وبعد كل شيء.. الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية: السياسية والاجتماعية والتشريعية.. ويقولون: إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله.. أولئك جميعًا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبًا ولهوًا، وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى، وبأنهم الظالمون -أي المشركون- والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون.

وثانيها: أن الرسـول صلى الله عليه وسلم -وينسـحب الأمـر على كل مسلم – مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا وغرتهم الحياة الدنيا- أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت.

وثالثها: قـول الله تعـالـى فـي المـشركين: ﴿اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾.

فهل هو دينهم؟

إن النص ينطبق على مَن دخل الإسلام، ثم اتخذ دينه هذا لعبًا ولهوًا.. وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين.. ولكن هذا كان في المدينة..

فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام؟ إن الإسلام هو الدين.. هو دين البشرية جميعًا.. سواء من آمن به ومَن لم يؤمن.. فالذي رفضه إنما رفض دينه.. باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينًا، ويقبله من الناس بعد بعثه خاتم النبيين.

ولهذه الإضافة دلالتها في قوله: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾.

فهي -والله أعلم- إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه، من اعتبار الإسلام دينًا للبشرية كافة، فمن اتخذه لعبًا ولهوًا، فإنما يتخذ دينه كذلك.. ولو كان من المشركين..

ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون؟ إنهم الذين يشركون بالله أحدًا في خصائص الألوهية، سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله، أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله، أو بقبول الحاكمية والشريعة من أحد مع الله، ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه، مهما تسمَّوا بأسماء المسلمين! فلنكن من أمر ديننا على يقين!

ورابعها: حدود مجالسة الظالمين -أي المشركين- والذين يتخذون دينهم لعبًا ولهوًا.. وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير، فليست لشيء وراء ذلك، متى سمع الخوض في آيات الله؛ أو ظهر اتخاذها لعبًا ولهوًا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها.

وقد جاء في قول القرطبي في كتابه «الجامع لأحكام القرآن» بصدد هذه الآية: «في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله عز وجل، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم، لهم أن يخالطوا الفاسقين، ويصوِّبوا آراءهم تقية..».

ونحن نقول: إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها، أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية فهو المحظور، لأنه -في ظاهره- إقرار للباطل، وشهادة ضد الحق، وفيه تلبيس على الناس، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله، وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة.

كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال: «قال ابن خويزمنداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر -مؤمنًا كان أو كافرًا- قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، ودخول كنائسهم والبِيَع، ومجالسة الكفار وأهل البدع؛ وألا يعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم.

وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة، فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة! ومثله عن أيوب السختياني.

وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخـرج الإسـلام مـن قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له، وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام»11- «كنز العمال» (1/219)، «شعب الإيمان» (7/61)، وضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1862)...

فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله.. وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية؛ ومن يقره على هذا الادعاء.. فليس هذا بدعة مبتدع؛ ولكنه كفر كافر، أو شرك مشرك، مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم، فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى، وهو يزعم الإسلام، ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام -إلا من عصم الله- وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام..»22- «في ظلال القرآن» (2/1128-1130) باختصار يسير..

الدروس المستفادة من الآيات

الحذر من التأثر بهم

– الدرس الأول: إن في مجالسة الكفار والظلمة والفساق داء خطير، ألا وهو التأثر بأحوالهم وسلوكياتهم، وهذا أمر مشاهد، ومن أجل ذلك حذرنا ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من أخطار ذلك حماية لنا ورحمة بنا، ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى بلاد الكفر والاجتماع بالكفار، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتراءى ناراهما»(3) مبالغة في ضرورة البعد عنهم بحيث لا ترى نار أحدهم نار الآخر.

وقد يقول قائل: إني أنكر في الباطن أقوالهم وأعمالهم.

فيقال له: ما لم يحصل الإنكار بالقول وهجر مجالسهم فإن التأثر بأحوالهم لابد أن يكون ولو كان القلب منكرًا، لأن المنكر من القول أو الفعل حينما يتكرر على السمع والبصر يألفه الإنسان، حتى يزول الإنكار القلبي، ويستحسن المنكر ويرضى به، وهنا مكمن الخطر على أصل الإيمان والتوحيد.

يقول الغزالي -رحمه الله تعالى-: «مجالسة الفساق تبعث على مسارقة طباعهم ورديء أخلاقهم، وهو داء دفين، قلّ ما يتنبه له العقلاء، فضلًا عن الغافلين، إذ قلَّ أن يجالس الإنسان فاسقًا مدة -مع كونه منكرًا عليه في باطنه- إلا لو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته، لوجد فرقًا في النفور عن الفساد؛ لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هينًا على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه»(4).

مقاطعة أهل الكفر والفسوق والنفاق

– الدرس الثاني: وبناء على ما سبق فإنه لا يجوز الجلوس في المجالس التي يخوض الناس فيها بالباطل أو السخرية من الحق وأهله إلا لمنكر فإن تغير المنكر، وإلا وجب هجر هذه المجالس والبراءة منها.

قال الله عز وجل: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].

– الدرس الثالث: ويلحق بمجالس الكفر والنفاق والفسوق كتبهم ومقالاتهم ومجلاتهم ومواقعهم وقنواتهم، لاسيما التي ظهرت وطمت وعمت في زماننا اليوم، ولذلك بوب علماء أهل السنة في كتبهم أبوابًا في النهي عن مجالسة أهل البدع وقراءة كتبهم والسماع لشبهاتهم، وحذر العلماء المعاصرون والدعاة والمربون المسلمين بمختلف شرائحهم من اقتناء كتب ومجلات وقنوات أهل الكفر والفسوق والنفاق، أو الدخول على مواقعهم في الشبكة العنكبوتية وما أكثرها اليوم، وأفتوا بحرمة النظر أو السماع لهذه القنوات والمقالات التي تخوض في آيات الله عز وجل وتجاهر وتشرعن المعاصي والمنكرات.

اجتناب مجالسة الحكام

– الدرس الرابع: ومما يلحق بما سبق الدخول على الظلمة من ولاة وأمراء، ورؤية الظلم والترف ولبس الحق بالباطل، فإن في ذلك تكدر القلب والركون إليهم، والانحياز إلى صفهم وخندقهم، وقد يئول الأمر إلى محبتهم والثناء عليهم، وتزيين باطلهم وتبرير ظلمهم للناس، وفي هذا خطر عظيم على ولاء المسلم الذي لا يبذل إلا لله ورسوله والمؤمنين، ومن أجل ذلك كثر تحذير السلف من الدخول على الأمراء، والانبساط إليهم، وقبول أعطياتهم، وذلك في زمانهم فكيف في زماننا اليوم؟!

عن معمر بن سليمان، عن فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تَبْلُوَنَّ نفسك بهنَّ: لا تدخُلْ على السلطان، وإن قلت: آمُرُه بطاعة الله، ولا تُصْغيَنَّ إلى ذي هوى، فإنَّك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخُل على امرأة، ولو قلتَ: أعلِّمُها كتابَ الله(6).

تحقيق البراءة من الكفار

– الدرس الخامس: في مجانبة مجالس الخائضين في آيات الله المستهزئين بها ضرب من ضروب البراءة من الكفر وأهله، وإظهار لكراهيتهم وكراهية مجالسهم، وهذا من لوازم كلمة التوحيد، التي تقوم على الولاء والبراء كما أن في هجر ومقاطعة هذه المجالس إغاظةً لأهلها، وإظهار بغضها وقد يكون في ذلك سببًا لهداية بعضهم وجعلهم يفكرون في أحوالهم، ولماذا هجر المسلمون مجالسهم.

الهوامش

1- «كنز العمال» (1/219)، «شعب الإيمان» (7/61)، وضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1862).

2- «في ظلال القرآن» (2/1128-1130) باختصار يسير.

3- الترمذي (1/219)، أبو داود (2647)، وصححه الألباني.

4- «إحياء علوم الدين» (2/230).

5- «سير أعلام النبلاء» (5/77).

اقرأ أيضا

حدود الولاء المكفر .. حفظا للأمة ومنعا للغلو

الاستهزاء بالدين من نواقض الإسلام .. الشيخ عبد العزيز الطريفي

المشروع الأمريكي في حرب أهل السنة .. الحرب الفكرية

الحرب على التوحيد في مؤتمرات الضرار

 

التعليقات غير متاحة