نعمة الكلام يمتن الله بها على عباده، وأثرها عظيم، حذر الله ورسوله منه، وأرشد الى استعماله، وللسلف مأخذ تقي فريد للفوز بشكر النعمة والنجاة من مزالق الفتنة.

مقدمة

جارحة اللسان جارحة خطيرة؛ إذ هي المترجمة عما في القلب، وهي الثغر الأعظم الذي منها يصدر الخير أو الشر، والحق أو الباطل، وما يقال هنا عن اللسان ينطبق تمامًا على ما يكتب بالقلم لأن القلم لسان.

وآفات اللسان ومخالفاته كثيرة ومتنوعة، ولها في القلوب المريضة حلاوة، ولها بواعث من الهوى والنفس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». (1البخاري في الرقاق، باب: حفظ اللسان (6474)، والترمذي في الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان)

وفي حديث معاذ في آخره: «…كُفَّ عليك هذا» فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم؟». (2جزء من حديث معاذ الطويل، أخرجه الترمذي (2619)، وأحمد (5/ 231)، وابن ماجه (3973)، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (413))

يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى وصية الشيطان لأوليائه في قيامهم على ثغر اللسان قائلًا:

“ثم يقول ـ أي: الشيطان ـ قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قُبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه؛ من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع. ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهم ظفرتم:

أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

والثاني: السكوت عن الحق: فإن الساكت عن الحق “أخ لكم أخرس” كما أن الأول “أخ ناطق”، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: «المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس»؟

فالرباطَ الرباطَ على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

واعلموا يا بَنيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأُكبُّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر؟

وأوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها، والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها». (3«الجواب الكافي» (ص137))

أحوال السلف وخوفهم من آفات اللسان

 عن زيد بن أسلم عن أبيه: «أن عمر دخل على أبي بكر، رضي الله عنه، وهو يجبذ لسانه، فقال عمر: مه! غفر الله لك، فقال أبو بكر: هذا أوردني الموارد». (4«الآداب الشرعية» (1/ 71))

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: «ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان». (5«الآداب الشرعية» (1/ 72))

وعن ميمون بن مهران قال: «جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني، قال: لا تتكلم. قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يتكلم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك. قال: زِدْني قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم. قال: فإن لابستَهم فاصدق الحديث وأدِّ الأمانة». (6«صفة الصفوة» ( 1/ 549))

وقيل للفضيل بن عياض: «ما الزهد؟ قال: القنوع. قيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم. قيل: ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض. قيل: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق. وقال: أشد الورع في اللسان».

قال الذهبي:

“هكذا هو، فقد ترى الرجل ورِعًا في مأكله وملبسه ومعاملته، وإذا تحدث يدخل عليه الداخل من حديثه، فإما أن يتحرى الصدق، فلا يكمل الصدق، وإما أن يصدق، فينمّق حديثه ليُمدَح على الفصاحة، وإما أن يُظهر أحسن ما عنده ليعظَّم، وإما أن يسكت في موضع الكلام، ليثنَى عليه. ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة». (7«سير أعلام النبلاء» (8/ 434))

وعن عباية بن كليب قال: «سمعت ابن السماك يقول: سَبعُك بين لحييك تأكل به كل من مرَّ عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البِلَى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى أن نبشهم أخذ الخِرَق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟ ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكامًا لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك. أما سمعت: «ارحم أخاك، واحمد الذي عافاك؟». (8«صفة الصفوة» (3/ 176))

وقال بكر بن منير: «سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا».

قال الذهبي:

“صدق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعّفه، فإنه أكثر ما يقول: “منكر الحديث”، “سكتوا عنه”، “فيه نظر”. ونحو هذا.

وقَلَّ أن يقول: “فلان كذاب”، أو “كان يضع الحديث”، حتى إنه قال: “إذا قلت فلان في حديثه نظر، فهو متهم واهٍ”، وهذا معنى قوله: “لا يحاسبنى الله أني اغتبت أحدًا”. وهذا هو والله غاية الورع». (9«سير أعلام النبلاء» (12/ 439))

وقال يونس بن عبيد ما: «رأيت أحدًا لسانُه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله. (10«الصمت» لابن أبي الدنيا (ص60))

وقال يحيى بن أبي كثير: «ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فَسَد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله». (11«الحلية» (3/ 68))

خاتمة

ذلك هو منطق السلف ومأخذ العُبّاد الكرام. التحرّي والتوقّي لينعكس ذلك على العمل واستقامته، وهو مصداق قول رب العالين سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (الأحزاب: 70-71)

جارحة اللسان سهلة الاستعمال بلا كلفة، ويقع الكثير فيها لسهولة المنطق وجر الشيطان لحلاوة الحديث حتى يقع في أعراض وحقوق، بل وينتج عنه إيغار صدورٍ ودفع الناس لاتجاهات صلاح أو فساد، بل وتصحيح عقائد أو إفسادها. فلتكن منك على بال، والله تعالى الموفق.

…………………………………

الهوامش:

  1. البخاري في الرقاق، باب: حفظ اللسان (6474)، والترمذي في الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان.
  2. جزء من حديث معاذ الطويل، أخرجه الترمذي (2619)، وأحمد (5/ 231)، وابن ماجه (3973)، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (413).
  3. «الجواب الكافي» (ص137).
  4. «الآداب الشرعية» (1/ 71).
  5. «الآداب الشرعية» (1/ 72).
  6. «صفة الصفوة» (1/ 549).
  7. «سير أعلام النبلاء» (8/ 434).
  8. «صفة الصفوة» (3/ 176).
  9. «سير أعلام النبلاء» (12/ 439).
  10. «الصمت» لابن أبي الدنيا (ص60).
  11. «الحلية» (3/ 68).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة