وجب على المجاهد أن يقوي التوكل على الله في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحول هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها.
الأعمال الصالحة زادا للمجاهد في مشاق الطريق
والأقوال والأعمال التي يحبها الله عز وجل كثيرة؛ منها الواجبات، ومنها المستحبات، وكذلك الأقوال والأعمال التي يبغضها الله عز وجل كثيرة. وليس المقصود حصرها وعدها في هذا المقام، وإنما المقصود التنبيه على ضرورة إعداد النفوس ومجاهدتها – قبل جهاد الكفار – على الانقياد لأوامر الله عز وجل والقيام بها، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه.
وهذا مطلوب من المسلمين بعامة، ومن المجاهدين أو الذين يعدون أنفسهم للجهاد بخاصة؛ وذلك لما للأعمال الصالحة من بركة وتثبيت لأهلها، وكونها زادا للمجاهد في مشاق الطريق، وسببا لمحبة الله تعالى ومعيته الخاصة.
أعمال القلوب
وهي الأصل في الأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا فسدت فسدت الأعمال كلها وإذا صلحت صلح العمل كله.
من الأعمال الصالحة التي ربی رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الصحابة في مرحلة الإعداد في مكة واستمر عليها في المدينة بعدما شرع الجهاد: المحبة والإخلاص التي ذكرناها في مقال سابق [مجاهدة النفس على العمل: (المحبة والإخلاص)] ، وفي هذا المقال نكمل بعون الله عز وجل بعض هذه الأعمال القلبية.
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
إن الركون إلى الدنيا وإشغال الهم والفكر بها وبمتاعها الزائل لهو من أعظم أسباب الغفلة وضعف كثير من أعمال القلوب والجوارح. ومتى ما امتلأ القلب بحب الدنيا وزخرفها لم يعد فيه مكان للأعمال الشرعية من المحبة والإخلاص والتوكل وغيرها، لأن التحلية بالأعمال الشرعية لا بد أن يسبقها تخلية مما يضادها من الأعمال المهينة والحقيرة والمشغلة عن الله عز وجل والدار الآخرة.
إن حب الجهاد في سبيل الله تعالى لا يحل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حس المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة.
خطورة الترف والركون إلى الدنيا على حياة الداعية والمجاهد
وإن الناظر في حياتنا اليوم وما فيها من الترف والدعة والاهتمام الشديد بالتوسع في مراكبها ومساكنها ومآكلها ومشاربها، وكمالياتها ليرى الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الحياة وحياة المجاهدين؛ ولذا كان لزاما علينا وعلى كل من أراد إعداد نفسه للجهاد، وعلى من يتولون إعداد الأمة للجهاد؛ علينا جميعا أن ندرك خطر ما نحن فيه من الترف والترهل والركون إلى الدنيا 1(1) ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان . ، وأن نبادر للتخفف منها ونبذل الأسباب التي تزهدنا فيها وترغبنا في الآخرة، وإلا نفعل تكن فتنة ومصيبة على أنفسنا وعلى أمتنا؛ إذ لو فاجأنا داعي الجهاد أو هاجمنا الكفار في عقر دارنا – وهاهم من حولنا – فإن أول من يقعد عن الجهاد فیذل للكفار ويستكين أو يفر منهم بجلده هم أولئك المترفون الغافلون السادرون الذين ملأت الدنيا قلوبهم وصارت هي همهم ومبلغهم من العلم.
مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها
والترف: هو التوسع في النعمة والمباحات، وبذل الجهد والوقت والهمة في تحصيلها والتنافس فيها. ولم يرد ذكر الترف في القرآن إلا بمعرض الذم؛ فلقد ذكر الله عز وجل في أكثر من آية أنه سبب الكفر والإعراض عن الحق أو رده؛ قال تعالى عن أصحاب الشمال (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ) [الواقعة:45]، وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سبا:35-34)، وقال تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: من الآية 116).
ولا يفهم من ذم الترف التهوين من شأن المال؛ فالمال عصب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولكن المقصود التحذير من الإسراف في التنعم وجعل ذلك من أكبر الهم، وبخاصة للعاملين في حقل الدعوة والجهاد والإعداد لما لذلك من آثار سيئة في حياة المنتسبين إلى الدعوة والجهاد. والواقع شاهد بذلك؛ فكم رأينا من الدعاة ومن كانوا مهتمين بالجهاد قد تخلوا عن الجهاد والإعداد له وركنوا إلى الدنيا بسبب الترف والتوسع في النعيم.
ويبين ابن خلدون رحمه الله مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها، وأثر التقشف وخشونة العيش في الغلبة على الأعداء فيقول في مقدمته: «الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببا في الشجاعة کما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر؛ فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار،
فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا2(2) تفنقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق). في النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم»3(3) المقدمة لابن خلدون: (ص 138)..
وكلما تخفف المسلم من الدنيا ومتاعها وأصبحت في يده لا في قلبه هانت عليه وهان علیه فراقها والتضحية بها، وسهل عليه الجهاد والبذل، وقوي عنده الصبر على المصائب والبلايا.
لا يجتمع ترف وجهاد
ولذلك كان المتقللون من الدنيا هم أتباع الرسل، وهم الذين يلبون منادي الجهاد عند النداء، والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة ؛ فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم. والجهاد بذل وتضحية ومشقة وبعد عن الملذات والشهوات ومفارقة للمحبوبات واقتحام للمكاره والعقبات؛ المترف يخاف كل شيء يعكر عليه صفو ترفه، والمجاهد لا يخاف في الله لومة لائم، المترف يتلهف للفسق والفجور والفواحش، والمجاهد يتطلع لقيادة البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالمترفون فاسقون والمجاهدون مصلحون.
ولهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير، وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت. والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم ؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء:16]4(4) الجهاد في سبيل الله (2/ 373)، د. عبد الله القادري ..
ويعلق سید قطب رحمه الله تعالى على آية الإسراء فيقول: (والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأس، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلأ بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها و عناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها. والآية تقرر سنة الله هذه…)5(5) في ظلال القرآن : (5/2217).
والحاصل التنبيه على خطورة الترف على حياة الداعية والمجاهد، وأن الجهاد والترف لا يجتمعان، وعلى من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وتعويد النفس على شظف العيش وخشونته. وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس الأمارة لأنها تميل إلى الدعة والراحة والتنعم.
کما لا ننسى دور المربين والقدوات الذين يربون الأمة ويعدوها للجهاد، فإن لم يكونوا مثالا للزهد والبعد عن الترف بأشكاله كلها فإن التربية ستكون ضعيفة وهشة؛ لأن الناس لا ينظرون إلى أقوال الدعاة والمربين فحسب، بل إن نظرهم يتركز على أفعالهم وأحوالهم. ولنتصور شخصا من الناس يحثه شيخه أو مربيه على الزهد في الدنيا ويحذره من الترف والتوسع في المباحات، ثم هو يری شيخه في مركبه ومسكنه وملبسه ومطعمه في واد والزهد في واد آخر. فماذا سيكون حال هذا المتربي؟! إنه سيشعر بالاضطراب و الازدواجية، وإن هذا لمما يعوق التربية والإعداد ويؤخرهما.
وإن مما يعين على ترك الترف والرضى من الدنيا باليسير والتضحية بها حين يتطلب الأمر ذلك: النظر في سيرة المربي العظيم سيد الزاهدين وإمام المرسلين محمد بن عبدالله ، وكيف كانت حياته، وكيف كان يعد أصحابه ويربيهم بقوله وعمله وحاله، ثم النظر في حياة الصحابة والتابعين لهم بإحسان من سادات المجاهدين والزاهدين. إن الإطلاع على حياة السلف رحمهم الله لمما يعين على الاقتداء بهم وبذل الجهد في اللحوق بهم؛ وإذا كان النعيم أثر في بعض أصحاب رسول الله في حياته فكاد يحول بين بعضهم وبين النفير مع الرسول ، وحال فعلا بين بعضهم وبين ذلك، ولم ينفعه من عقاب الله وسخطه وسخط رسوله إلا التوبة، فكيف بمن بعدهم؟.
فهذا كعب بن مالك يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويعرض في سياق حديثه بعض الأسباب التي أغرته بذلك التخلف، منها المشقات التي استقبلت المجاهدين كما قال: (فغزاها رسول الله في حر شدید، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم…).
ومنها النعيم ووسائل الراحة المتاحة في المدينة التي كان يميل إليها کما قال: (وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر)6(6) البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: الجهاد في سبيل الله، الدكتور القادري (2/376). أي أميل.
وأختم هذا الحديث عن الزهد وما يضاده من الترف بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوجه فيها الأنظار إلى كيفية الاستقامة بالزهد في الدنيا فيقول: (لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي کا قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) (الأعلى:17).
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظر ان آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل و قویت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل)7(7) الفوائد، لابن القيم: (ص 94، 95) باختصار..
وإن مما يعين على الزهد وترك الترف محاولة الانتقال من حياة الدعة والترف ما بين الفينة والأخرى؛ وذلك كأن يخصص الداعية أياما أو أسابيع في السنة يفارق فيها أهله وبلده ضمن برنامج دعوي في بعض القرى أو الهجر أو الأماكن النائية في الجبال والغابات التي يقطنها كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد ولا كيف يصلون ولا يصومون وتنتشر فيهم الأخلاق والعادات السيئة؛ فإن مثل هذه الأجواء فيها تربية للداعية نفسه، وذلك بالتعود على حياة الخشونة والشظف، وفيها تربية وتعليم لسكان هذه الأماكن ما يجهلونه من أمر دينهم، ولا شك أن هذه الأعمال تحتاج إلى جهاد مع النفس بنقلها من حياة الدعة والترف التي تحبها إلى حياة الشظف والتعب التي تكرهها، كما أن في مثل هذه الأسفار بذلا للمال في سبيل الله عز وجل ومجاهدة للنفس في حبها للمال والبخل به.
4- التوكل على الله عز وجل
وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد، ولا سيما المجاهد أو من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله تعالى، وحقيقة التوكل: هو غاية الاعتماد على الله سبحانه وغاية الثقة به، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها، وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها.
لذا وجب على المجاهد أن يقوي هذه العبادة في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحول هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها؛ لأن هناك فرقا بين العلم بالتوكل والمعرفة به وبين كونه عملا وحالا.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (… وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص… ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل؛ فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل. فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به…)8(8) مدارج السالكين (2/ 125).. والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنی؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن کمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه القادر على كل شيء، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه. من أيقن بهذا وتشرب به قلبه اعتمد على من هذه صفاته وفوض أمره إليه سبحانه.
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب، لأن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء فقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: من الآية 60]، وأمر بأخذ الحذر من الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية 71).
وظهر الرسول يوم أحد بين درعين ولبس المغفر، وحفر الخندق؛ وهو سيد المتوكلين. ولكن قلبه لم يتعلق بهذه الأسباب بل فوض أمره إلى الله عز وجل، ودعا ربه بالنصر وإهلاك الكافرين، قال سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) (الأنفال: من الآية17).
ولما ظن الصحابة ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هزموا في أول المعركة، وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) [التوبة: من الآية 25].
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها واجب وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب. وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل؛ كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة، وتارة يكون توكل اختیار وذلك: التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورا به ذم على تركه، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضا؛ فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما. وإن كان السبب محرما حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه؛ فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق، وإن كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه مباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاکمین اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته – إلى أن قال- وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، کما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره ورکونه إليه وثقته به فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء)9(9) الفوائد: (ص86، 87).
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل: اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين و تثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك.
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:
الطرف الأول: الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سینزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وکفی. وهذا الفريق من الناس يفرط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل.
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين.
الطرف الثاني: وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردة فعل له، وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح والأخذ بالأسباب المادية ، ومثل هؤلاء يغلبون الأسباب المادية ويتعلقون بها ويفرطون في الأسباب الشرعية، ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه. ومعلوم أن المسلمين في كل وقت – وبخاصة في هذا الوقت – لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح؛ لأنه ليس شرطا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرف وغفلة عن مسبب الأسباب ونسيان لقوة الله تعالى والتي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصر بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض.
الوسط: وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربوا أنفسهم على ذلك، وبلغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من کفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم. ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب ومن بيده ملكوت السماوات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، ولم ينسوا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:7]، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31]، بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالی دمرها عليهم وأبطل مفعولها. ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين الشرعية والمادية ولا بد هنا من التفريق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب في إعداد العدة كما سبق بیانه10(10) انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص 199)..
الهوامش
(1) ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان .
(2) تفنقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق).
(3) المقدمة لابن خلدون: (ص 138).
(4) الجهاد في سبيل الله (2/ 373)، د. عبد الله القادري .
(5) في ظلال القرآن : (5/2217)
(6) البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: الجهاد في سبيل الله، الدكتور القادري (2/376).
(7) الفوائد، لابن القيم: (ص 94، 95) باختصار.
(8) مدارج السالكين (2/ 125).
(9) الفوائد: (ص86، 87)
(10) انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص 199).
اقرأ أيضا
مجاهدة النفس على العمل: (المحبة والإخلاص)
مجاهدة النفس لتعلم الهدى ودين الحق