إن سنَّة الله التي تحكم قيام الأمم أو سقوطها هي أن السقوط والهزيمة نتيجة تتكرر كلما جاء سببها، وهو الوهن الداخلي. ومن عرف هذا عرف طريق الإصلاح؛ لمن أراده.

مقدمة

لقد فطن لتلك السنَّة أعداء أمتنا؛ بل وتحركوا من خلالها قديماً وحديثاً.

في عام (16)هـ فُتحت “المدائن” عاصمة ملك الدولة “الساسانية” وانطفأت نار المجوسية المعبودة إلى يوم القيامة على يد (خال رسول الله صلى الله عليه وسلم) الأسد في براثنه “سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه”، وهرب جرَّاء ذلك كسرى الفرس وملكهم “يزدجرد الثالث” الذي ظل مطارَدا من بلد إلى بلد حتى استقر في مرو ، وظل المسلمون يلاحقونه حتى يأسروه أو يقتلوه.

ونتيجة الهزائم المتتالية التي مُنيت بها جيوش “كسرى” أن قام بالاستنجاد بملوك “الترك” و”الصغد” و”الصين”؛ فأمده كل من ملك الصغد وملك الترك، وتخاذل عن نصرته ونجدته ملك الصين.

جاء ضمن أحداث سنة (22هـ) والتي وصل فيها رسول “كسرى” من عند ملك الصين برده على الاستغاثة التي كان قد وجهها كسرى إليه في كتابه إليه والتي جاء فيها.

حكمة ملك الصين

أرسل (يزدجرد) كسرى الفرس إلى ملك الصين، يطلب منه العون والنجدة بعد هزيمته في معركة (نهاوند)؛ فقال ملك الصين لرسول كسرى:

“قد عرفت أن حقًّا على الملوك إنجادُ الملوك على من غلبهم؛ فصِفْ لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرةً منكم، ولا يبلغُ أمثالُ هؤلاء القليل ـ الذين تصفُ ـ منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا بخير عندهم وشرٍّ فيكم.

فقال رسول يزدجرد: سلني عمَّا أحببت.

ملك الصين: أيوفون بالعهد؟

رسول يزدجرد: نعم.

ملك الصين: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟

رسول يزدجرد: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمَنَعة، أو المنابذة.

ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟

رسول يزدجرد: أطوع قوم لمرشدهم.

ملك الصين: فما يُحلُّون وما يُحرِّمون؟.. ويخبره رسول يزدجرد.

ملك الصين: أيحرِّمون ما حلَّل لهم، أو يحلون ما حرَّم عليهم؟

رسول يزدجرد: لا.

ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يحلُّوا حرامهم، ويحرّموا حلالهم.

ثم قال: أخبرني عن لباسهم ؟ فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العِراب ـ ووصفتها ـ فقال: نعمت الحصون هذه..! ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها، فقال: هذه صفة دوابّ طوال الأعناق.

ثم كتب ملك الصين كتاباً إلى يزدجرد، جاء فيه:

“إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوَّله بمَرْو وآخره بالصين الجهالة بما يحقُّ عليَّ، ولكنَّ هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتَهم لو يطاولون الجبال لهدُّوها، ولو خُلّي سربهم أزالوني، ماداموا على ما وُصف؛ فسالِمْهم، وارضَ منهم بالمساكنة، ولا تهيِّجهم ما لم يهيِّجوك”. (1تاريخ الأمم والملوك (4 / 172) ، الكامل في التاريخ (2 / 343)، البداية والنهاية (10/ 169))

متى تبدأ الهزائم

هذه هي حكمة ملك الصين: “إن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يُحلّوا حرامهم، ويُحَرّموا حلالهم”.. وأبلغ من ذلك وأحكم قوله تعالى  ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)

إن الهزائم تبدأ من هنا.. من داخل الأمة، وليس من خارجها، وهذه الحكمة جديرةٌ بأن نضعها نصب أعيننا ونحن نقرأ الماضي، ونبصر الحاضر، حتى نقدر على القراءة الصحيحة لمستقبلنا.

إن أعداءنا يدفعوننا دائماً إلى الزهد في أخطائنا الداخلية تحت دعوى أولويَّات مزعومة ننخدع لها نحن ـ أحياناً ـ بسذاجة غريبة، في حين أن هذه الأخطاء الداخلية هي في رأس قائمة الأولويات، ذلك أن التأثير القوي في الخارج إنما هو النتيجة البدهية لنظام دقيق وصحيح في الداخل.

إن حالنا اليوم لن يغيِّره الله حتى نغيِّر ما بأنفسنا من تفشِّي البدع والشرك، بشتى صوره الجليّة والخفيّة، والتبعيَّة للغرب، ومحو آثار “المعاصي” والفجور” التي لبست ثوب “المباح” و”التقدُّم” و”الرُّقي”، والفرار إلى الله، وتحكيم شرعه في جميع شؤون الحياة.
يقول “رشيد رضا”، رحمه الله، في “تفسير المنار”:

“إنَّ نعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ـ ابتداءً ودواماً ـ بأخلاق وصفات، وعقائد وعوائد، وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم، متمكِّنة منها، كانت تلك النعم ثابتةٌ بثباتها، ولم يكن الربُّ الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب؛ فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتَّب عليها من محاسن الأعمال؛ غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم، وسلب نعمته منهم”.

وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم، ويكون ذلك سبباً في انهيارهم وزوال ملكهم، جزاء فسقهم وعصيانهم.

شروط النصر

إن سنَّة النصر لا تتخلَّف متى استُوفيت الشروط، وأهمها الاستقامة على منهج الله، بطاعة أمره واتباع رسوله؛ قال تعالى :﴿إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)، وقال جلَّ ذِكرُه: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ (الصافات: 171-173).

إن من البدهي أن نتوقع من أعدائنا كل خبث وكيد وتخطيط موجَّه، وليس لنا أن نطالبهم بعدم الكيْد لنا، والعمل على تحقيق ذلك الهدف؛ فهذا لونٌ من سَفَه العقل، وإنما سيطرتنا على أعدائنا لها طريق واحد، هو: تطهير أنفسنا من الداخل، من أخلاقيات الضعف والخوف، وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، التي تمهد لقبولنا الاستعباد والخضوع.

إن واقعنا اليوم قد يكون أزمة كبرى، ولكنَّ الأزمات الكبرى هي التي توقظ الأمم من سباتها، وتحفِّزها للانطلاق من جديد.

فهل نقدر اليوم على أن نحوِّل الهزيمة النفسية ـ بعد شعورنا بوجودها ـ إلى دافع يفجِّر روح التحدي والرفض للواقع المزري، فنبدأ خطوةً في الطريق الصحيح تقضي على الخلايا الشائخة في الأمة، وتدفعها نحو بعث جديد من مرقدها الحضاري؟

هل نخطو هذه الخطوة في الطريق الصحيح، أم نُبْقي عجلة التحكم في مصير أمتنا بيد أعدائنا، بدعوى أن قوتهم هي التي تقتل بعثنا الحضاري، بينما الحقيقة المرّة أننا نحن الذين نقتل هذا البعث الحضاري عبر ما بأنفسنا من (الانحراف الفكري)، و(القابلية للهزيمة)، و(الانتحار الداخلي)..؟!

خاتمة

قد قال تعالى ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران: 120). وهذه الآية تمثل قاعدة لنجاة الأمة لأنها تخلصها من أمراضها الداخلية فتستقيم، ومن أمراضها في مواجهة العدو فتنتصر؛ فقد انتظمت الآية جوامع الخير؛ فالتقوى تعني الاستقامة على المنهج، والصبر يشمل الصبر على تطبيق المنهج وعلى مواجهة العدو الخارجي والمستتر. وبهذا يتم الخير للعبد في خاصة نفسه، وللأمة في مجموعها.

……………………….

المصادر:

  1. تاريخ الأمم والملوك (4 / 172) ، الكامل في التاريخ (2 / 343) ، البداية والنهاية (10/ 169).
  2. “عوامل النصر والهزيمة في ضوء القرآن الكريم” د. أنور صالح أبو زيد.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة