إذا صلحت معتقدات أمة واستقامت أفكارها نهضت من ثباتها وعادت من مواتها، وإذا انحرفت عقائدها وفسدت أفكارها تحللت ذاتيا وانهزمت داخليا.

الأفكار والحضارة

تنطلق أية أمة من الأمم في دربها الحضاري من مجموعة الأفكار التي علي أساسها تشيد الأمة  صرح حضارتها.

ويقدم الواقع شواهد عديدة علي أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار؛ ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعاً لنوعية الأفكار التي يعتنقها أفرادها “فصحة المجتمعات أو مرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه”(1) و”المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق علي تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كان حال الأمة المسلمة الأولي في صدر الإسلام وتفوقها علي مجتمعات الرومان والفرس وغيرها”. (2)

الانطلاقة الأولى للأمة

ومعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، حتي إذا جاءت عقيدة الرسالة، تحوّل الرجال الذين لا يزالون في بداوتهم والقبائل ذات الحياة الراكدة.. تحول هؤلاء إلي رجال يحملون  للعالم الحضارة ويقودون فيه التقدم والرقي؛ فماذا دخل حياة المجتمع العربي يومئذ ؟

“لم يدخل حياتَه عاملٌ جديد ينقله تلك النقلة الهائلة في كل جانب من جوانب الحياة وفي كل مقوّم من مقوّمات الحضارة، إلا ذلك التصور الاعتقادي الجديد..

ذلك التصور الذي جاء إلي عالَم الإنسان بقدَر من الله، والذي انبثق منه “ميلاد” للإنسان جديد، و”نظام” للحياة جديد، و”واقع” للمجتمع البشري جديد يختلف في أسسه وفي ملامحه عن مجتمعات الجاهلية”. (3)

وما ذلك إلا لأن التصرف السليم فرع عن التصور السليم.

“وما سلوك الإنسان وتصرفاته إلا نتيحة لأفكاره، فإذا تغيرت هذه الأفكار سواء بجهده أو بجهد غيره، فإن سلوكه يتغير لا محالة، وهذا التغيير يمكن أن يصل إلي درجة النقيض كأن يتحول الإقدام إلي إحجام، أو أن يتحول الإقدام إلي نوع من الفتور”. (4)

العقائد مفصلية

فهناك “عقيدة” قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، و”عقيدة” أخري تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم..!!

ولأن “معتقداته” بهذا القدر من الأهمية، فإنه، ومنذ أن تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء الأمة الإسلامية يحرصون علي تخريب العقيدة الإسلامية وتشويه العقل المسلم من ناحية، ومن ناحية أخري يقومون برصد الأفكار والمعتقدات الفعّالة التي تحاول إحياء الأمة، لكي يقضوا عليها في مهدها، أو يحتووها قبل أن تصل إلي جماهير الأمة فتصحح وجهتها أو تُعدّل انحرافات أفرادها، ولتبقي الجماهير إذا اجتمعت تجتمع علي أساس العاطفة وتحت سلطانها، وليس علي أساس  “العقيدة .. والمبدأ”.

مجال للحرب مع العدو

ومن هنا كانت مخططات أعداء الإسلام “لاحتواء وتدمير الأمة الإسلامية تهدف دائما إلي هزيمة الأمة (عقديا)، لأن هزيمة الأمة في معتقداتها تجردها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقداتها”. (5)

إذن فالمعركة بين الأمة الإسلامية، وأعدائها.. ليست معركة واحدة في ميدان الحرب،  بل هي معركة في ميدانين؛ ميدان الحرب، وميدان الفكر.

والأعداء حريصون في ميدان الفكر علي “احتلال” عالم “الأفكار” في أمتنا، وحريصون في نفس الوقت علي توزيع “نفاياتهم” الفكرية من أفكار اللغو كأشعار الغزل والقصص الجنسي والأدب العاري، وما إلي ذلك..

حريصون علي توزيع هذه النفايات إلي أمتنا، لأنهم يعلمون أن الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار الفاسدة تصبح غثاء تدور به “الدوّامات السياسية العالمية، ولا يملك نفسه عن الدوران ولا يختار حتى المكان الذي يدور فيه.

وهذا ما أخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم وحذر منه:

“يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها”، قالوا: أمن قلة يومئذ يا رسول الله؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم،  وليقذفن في قلوبكم الوهن”، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت “. (6) (7)

للخروج من حالة “القصعة المستباحة”

إن إحاطة عدونا بنا، ووصولنا إلي مرحلة الشتات والفرقة، ودخول أمتنا مرحلة “القصعة”.. كل ذلك “دليل علي وجود خلل في البنية الفكرية والطروحات العقيدية التي أثمرته، مهما كانت دعاوانا عريضة، وأصواتنا مرتفعة بالإدعاء أننا علي النهج السليم”. (8)

ولذلك فإن العاملين في ميدان “إحياء الأمة” لابد لهم التمييز بين “أسباب” مرض أمتنا و”أعراض” هذا المرض، فالأسباب في الحقيقة “فكرية” أساسها المعتقدات والقيم والأفكار، أما الأعراض فهي سياسية واقتصادية واجتماعية… الخ.

ومن هنا فإن بداية أي تغيير لابد أن تحدث في الأفكار، وبقدر ما تملك الأفكار، رصيدا قويا من الاستجابة لدي الأمة وتغييراً ملحوظا في مجال سلوكيات أفرادها وعلاقاتهم الاجتماعية، ستتحول هذه الأفكار ثقافة معطاءة يمكن أن نقول: إنها تشكل نقطة البدء في التغيير المنشود.

“إن التغيير لا يتم إلا بوجود مبدأ يصدر عنه أفراد الأمة، وعقيدة يشترك جميع الأفراد في احترامها والحفاظ عليها والدفاع عنها..

وهذه العقيدة هي من أهم عناصر بناء الأمة؛ لأنها هي التي تحدد الصلات الاجتماعية، وهي التي ترسم نهج السلوك، وهي التي تضع قواعد المجتمع، وتقيم نظمه وتهدي إلي مثله”. (9)

ولذلك فإنه من الضروري أن يكون الزاد الذي نحمله لـ “إحياء الأمة” و”بعث” حضارتها هو العقيدة الدينية، لأن الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، ولا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة “وحي من السماء” يكون للناس شرعاً ومنهاجاً.

محورية العقيدة الدينية للنهضة والاصلاح

“فالعقيدة الدينية عامل أساسي في التغيير الاجتماعي نحو الحضارة، ولكن بشرط أن تكون نابعة من دين سماوي خالص لم ينله تشويه ولا تحريف”. (10)

إن الأمة التي تفقد العقيدة وتخسر العقيدة الدينية تتحول في الحقيقة إلي أمة ميتة “ولا يغرّنك بقاء بعض الأمم التي لها صفة “الأمة الميتة” زمناً دون أن تسقط، ذلك أنها تبقي متكئة علي “مِنسأتها” من أجهزة الأمن؛ بحيث يُخيّل للرازحين تحت ظلمها أنها حيّة قائمة، حتى يبعث الله عليها عناصر انقلابية من الداخل، أو قوة غازية من الخارج فتأكل المنسأة، وتخر هذه الأمم !!

وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها، أن لو كانوا يعلمون الغيب، ما لبثوا في العذاب المهين”. (11)

إن “هيبة الأمة” قد تكلفها أحياناً الأفكار إذا ما تناغمت الأفكار مع المرحلة التي تجتازها الأمة،  ولم تفتقد هذه الأفكار منطق العمل والحركة.

ولذلك فإنه من الخطأ أن نعتقد أن الذي ينقص أمتنا في وضعها الراهن هو الصاروخ  أو البندقية بينما ما ينقصها في الحقيقة هو “الأفكار” و”العقيدة الصحيحة”؛ فأزمتها ليست أزمة وسائل وإنما هي أزمة “أفكار ومعتقدات”..

وكلما كانت أفكارنا نابعة من ديننا، كلما كانت أكثر فاعلية وقدرة علي تحريك الأمة..

وكلما كانت أفكارنا قابلة للتجسد في الواقع عبر أشخاص، كلما كانت لها وظيفتها الاجتماعية، وتحولت إلي تيار إحيائي يحل مشكلات الأمة في واقعها، ويرسم لها خطة المستقبل الأفضل.

لقد قامت الأمة الإسلامية الأولي علي “الفكرة”” و”العقيدة”؛ فكانت أرحب في آفاقها من الدم والأرض والإقليم.

وكانت عقيدتها التي قامت عليها ما قاله ربعيّ بن عامر حين دخل علي رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم؟ فقال: “الله ابتعتنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام”..

وهذه هي “العقيدة” والرسالة التي  تحملها أمتنا ..أمة “العقيدة”.

التغيير المنشود

إن “إحياء” الأمة و”بناء” المجتمع، بل و”هيبة” تلك الأمة وهذا المجتمع؛ إنما تقوم علي الأفكار. والصراع في الواقع إنما يكون بين فكرتين، فكرة “حية” تصنع الرجال وتحيي الأمة، وفكرة “ميتة” لا تصنع أولئك الرجال، ولا تحيي هذه الأمة..

فهناك أفكار وعقائد تدفع أفراد الأمة إلي التحرك نحو تغيير الواقع الفاسد مهما كلفهم ذلك من تضحيات، وأخري تجعلهم يرتكسون في أوحال الذل، ومستنقعات الاستعباد..

ولذلك فإن الطريق إلي “التغيير المنشود”، و”إحياء الأمة الإسلامية” لا بد فيه من رفض الأفكار السلبية والخاطئة في مجال العقائد والسلوك والعلاقات الاجتماعية، وقبول الأفكار الصحيحة التي تكون الأساس الذي يقوم عليه التغيير.

…………………………………………..

الهوامش:

  1. هكذا ظهر جيل صلاح الدين د.ماجد عرسان الكيلاني ص 274.
  2. إخراج الأمة المسلمة ـ د.ماجد الكيلاني ص 88.
  3. مقوّمات التصور الإسلامي ـ سيد قطب ص 22.
  4. حتي يغيروا ما بأنفسهم ـ جودت سعيد ص80.
  5. المسلمون وظاهره الهزيمة النفسية ـ عبد الله الشبانة ص 17.
  6. أخرجه أحمد وأبو داود.
  7. واقعنا المعاصرـ محمد قطب ص 356.
  8. نظرات في مسيره العمل الإسلامي ـ عمر عبيد حسنه ص 25.
  9. المجتمع الإسلامي ـ د. محمد أمين المصري ص16.
  10. أزمتنا الحضارية في إطار سنه الله في الخلق ـ د. أحمد كنعان ص 153.
  11. إخراج الأمة المسلمة ـ د. ماجد الكيلاني ص 130.

المصدر:

  • كتاب “الأمة الإسلامية من الريادة الى التبعية” ـ الدكتور محمد محمد بدري

اقرأ أيضا:

4.5 2 votes
Article Rating

التعليقات غير متاحة