للأمة دورها في التغيير، وللفرد دور مهم عند غياب الجموع وانصرافهم؛ فقد تعود بهم فئام من الناس، ويكون لهم أدوار لا تُنسى؛ لذا وجب على المسلم أن يبادر ويباديء.

مقدمة

تعيش الأمة الإسلامية في حالة ضعف لا تحسد عليها، وكي تنهض من الوهدة التي سقطت فيها لا بد لها من تيار أو جماعة تأخذ بأيديها إلى برّ الأمان وشطآن الاستقرار، وتأخذ على عاتقها مهمة التغيير الحضاري، والقفزات النوعية بخصوص ذلك، ونقل هذا إلى حيز التنفيذ، وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الطريق بقوله: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾. [هود: 113]

أُوْلوا بقية

يصفهم الإمام القرطبي بقوله:

“أصحاب طاعة ودين وعقل وتمييز”. (1تفسير القرطبي 9/ 113)

ويقول ابن قتيبة:

“المعنى: فهلّا كان من القرون ممن كان قبلكم أُولو بقية، والبعض قال أولو تمييز”. (2زاد المسير في علم التفسير 4/ 170)

ويقول الإمام الطبرى:

“ذو بقية من الفهم والعقل يعتبرون مواعظ الله ويتدبرون حججه فيعرفون مالهم في الإيمان وعليهم في الكفر به”. (3تفسير الطبري 12/ 138)

ونخلص من هذه الأقوال إلى ضرورة توفر ميزات معينة في هذه “الجماعة”، وذلك من فهْم كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، مع إدراك كامل للواقع البشري الذي تحياه الأمة، والتمييز بين ما يصلح وما يضر..

من سنن الله دورُ الصفوة

لا بد لهذه “الجماعة” من التعرف على سنن الله وتوظيفها لعمارة الأرض على مقتضى القرآن والسنة بالإضافة لمهمة تبصير الأمة بمكامن القوة وأماكن الخطر حتى تعرف الأمة من أين تُؤتَى.

وكما يقولون “الرائد لا يكذب أهله”؛ فكل جماعة إنسانية ترنو إلى تسجيل قفزات نوعية في الإقلاع الحضاري لا بد لها من “صفوة رائدة” تتصف بصفات معينة تخوّلها لهذه المكانة.

يقول المؤرخ أرنولد توينبي:

“إنه لا بد لكل جماعة إنسانية من صفوة قائدة لكي تتقدم وتتحسن أحوالها، ولا يتم تقدم إذا عدمتها الجماعة، فكأنها خميرة التقدم والنهوض”.

ويقول:

“إن مصير الجماعة كلها مرتبط دائماً بهذه الصفوة وأحوالها؛ فإذا ظلت على هذه الحال من القلق والسعي والإحساس بمسؤولياتها عند الجماعة تكوّن حولهم جماعة من الناس يسيرون في الطريق بعدهم واطّردت مسيرة الجماعة وطال عمر صلاحها”.

كما أكد الأستاذ سيد قطب في كتابه القيم «معالم في الطريق»، على ضرورة نهوض طليعة مؤمنة تنقذ الأمة.

وتأتي ضرورة وجود هذه العصبة من كون الله يحفظ بهم الأمه من غوائل الدهر وعاديات الزمن، فهم وحدهم القادرون على إدراك الخطر الحضاري أو السوس الذي ينخر ببطء في المجتمع، كما أنهم هم القادرون على تلمّس القفز الحضاري وطرقه ووسائل تنميته وتشجيعه.

يقول الأستاذ رشيد رضا:

“جاءت هذه الآية بعد بيان إهلاك الأمم بظلمهم وإفسادهم في الأرض؛ للإعلام بأنه لو كان فيهم جماعات وأحزاب “أولو بقية” من “الأحلام” و”الفضائل” و”القوة” في الحق ينهونهم عن ذلك لما فشا فيهم، وأفسدهم، وإذن لَما هلكوا؛ فإن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يُطاعون فيها بحسب سنة الله، كما أن الأطباء هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من فشو الأمراض والأوبئة فيها ما دامت الجماهير تطيعهم فيما يأمرون به من أسباب الوقاية قبل حدوث المرض”. (4المنار: 12/ 244)

شخصيات فارقة

ولم ينفع العالم الإسلامي هذا الغثاء كله الذي يملكونه ليدفعهم إلى مصاف الأمم الحضارية والمدنية؛ فالصوفيون الخرافيون المنتشرون في أكثر بلاد المسلمين ـ إن لم أقل في كلها ـ لم يكن لهم أي تغيير حضاري يذكر أو يسجل؛ بل يقفون عقبة كأداء في كثير من البلدان في وجه الحركة الإسلامية الحقيقية التي تنشد التغيير الحضاري.

وأسجل مثال “الصوفية” هنا نتيجة كثرتهم الكاثرة التي لم تؤثر في مجرى إعمار أرض المسلمين على مقتضى الشريعة الغّراء؛ بينما قام أفراد معدودون أمثال “ابن باديس” و”البنا” و”الدهلوي” و”المودودي” بأعمال إسلامية مازالت بصماتها وتأثيراتها حتى الآن.

ولقد كتب الله تعالى في «الزبور» ، أنه لن يسلم حكمه لشخصيات مهزوزة لا تأخذ الكتاب بقوة ولا تثبت وجودها في عالم تصارع الأفكار والمبادئ عندما قال: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾. [الأنبياء: 105]

إن أفراداً قدّموا خدمات لأممهم أكثر من ملايين الأفراد، لأنهم أدركوا عظم الخطر الذي يتهدد بلادهم وحجم المسؤولية الملقاة عليهم، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من ضرورة العمل الجماعي الذي يحقق نتائج أفضل..

فالعالم الذري اليهودى “اينشتاي” قدم لبني جلدته خدمات كبيرة في فرض وجودهم السياسي وإقامة دولتهم على تراب أرض فلسطين المغتصبة.

وكذلك “الأغاخان” الذي جعل من طائفته “الإسماعيلية الباطنية” جماعة قوية يُحسب لها حسابها. وإن تشييد جامعة “الإسماعيلية” في مدينة “كراتشي” الباكستانية، لخير شاهد على ذلك، كما أن نفوذه الاقتصادي في باكستان أمر خطير جداً.

ويزخر التاريخ الإسلامي بشخصيات تركت آثارها على الواقع الفكري الإسلامي والواقع العلمي حتى هذا اليوم، وأكبر مثال على ذلك هو شيخ الإسلام ابن تيمية الذي مازالت الحركات الإسلامية تستشهد وتقتبس من أقواله أثناء تنظيراتها الفكرية والحركية، وهذا مصداق قوله، صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله على كل رأس مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها». (5رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني)

الانتقاء لا التكديس

والخطوة الأولى في هذا المضمار هو أن تأخذ جماعة رائدة مسلمة على نفسها هذا العهد وتعمل من أجله ليل نهار، ولا تتعجل في عملية التجميع والتكديس؛ ولنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة عندما قدم عليه وهو في طريق هجرته بعض الأعراب يريدون إشهار إسلامهم والهجرة إليه، نظر إليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكأنه تفرّس فيهم وعرف عدم صلاحيتهم لأن يكونوا معه في دار الهجرة في هذه المرحلة الحساسة من إقامة دولة الإسلام؛ فقبِل إسلامهم

وأمرهم بالعودة إلى بلادهم، وعدم الهجرة؛ ذلك أن بعض الأفراد قد يكونون عقبة في تقدم العُصبة المؤمنة (الأولوا بقية) الذين يريدون التقدم النوعي المتميز.

وبمقدار ما تكون الدفعة الحضارية والزخم الروحي للانطلاقة الأولى لهذه العصبة قويةً بمقدار ما تطول فترتها أكثر وأكثر.

خاتمة

لا بد لهذه الفئة من شحذ فعاليتها، ودراسة الواقع المحيط بها والحضارات التي تعاقبت على الأمم حتى تنتفع بهذه الدروس ولا تضيف درساً مكرراً إلى الإنسانية، فهل تنهض هذه الفئة المخلصة التي يتحرق العالم الإسلامي لرؤيتها، هذا ما نرجو وما ذلك على الله بعزيز.

……………………….

الهوامش:

  1. تفسير القرطبي 9/ 113.
  2. زاد المسير في علم التفسير 4/ 170.
  3. تفسير الطبري 12/ 138.
  4. المنار: 12/ 244.
  5. رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني.

المصدر:

  • مجلة البيان شعبان – 1409هـ، مارس – 1989م، (السنة: 3).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة