العبادة والتوكل لهما لوازمهما ومقتضياتهما وما تثمرانه في النفس والحياة من آثار عظيمة القدر والنفع في الدنيا والآخرة. فإن لم تظهر هذه الآثار واللوازم فإن هناك دخلا وانحرافا في فهم أو تطبيق هذين الأصلين العظيمين؛ فالعبرة بما يظهر من الآثار لعبادة الله عز وجل والتوكل عليه.
من آثار ولوازم العبادة والتوكل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله سبحانه
العابد لربه حقا لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال وهو يرى المنحرفين عن عبادة الله جل وعلا ، بل ينطلق في دعوتهم إلى الخير انطلاق المشفق الرحیم الخائف عليهم من عذاب الله عز وجل ، مبتدئا بالأقربين من الأهل والأولاد، كما لا يقر له قرار وهو يرى ما يبغض مولاه ومعبوده سبحانه من الشرك أو المعاصي ، وإنما يسعى جاهدا لإزالة ذلك بمجاهدة أهل الشرك والعصيان بالحجة والبيان ثم بالقوة والسنان إذا اقتضى الأمر ذلك ، وكان هو المحبوب والمرضي لله عز وجل في وقته ، ويتحمل في مرضات ربه عز وجل كل الأذى والتضحيات بل وبذل النفس في سبيل معبوده ومحبوبه ومولاه ، وهذا هو العابد لربه حقا والمتوكل عليه صدقا ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالی:
(والجهاد: هو بذل الوسع . وهو كل ما يملك من القدرة . في حصول محبوب الحق ، ودفع ما يكرهه الحق ، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد ، كان ترکه دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه .
ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبا إلا باحتمال المكروهات ، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور ، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا ، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة ، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما یری من تحمل المحبين لغير الله ما يحتملون في سبيل حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبته لله ؛ إذ كان ما يسلكه أولئك في نظرهم ، هو الطريق الذي يسير به العقل . .
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبا لله ، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ [البقرة : ۱۹۰] )1(1) العبودية ص 44..
ويقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالی: (العابد لله يجند نفسه لمقاومة كل ثورة على الإسلام وتعاليمه وحملته المخلصين ، مهما اتسمت هذه الثورة بأي اسم قومي أو وطني أو اشتراكي وما إلى ذلك ، ويعاهد ربه بتكريس جميع قواه لدحض المفترين عليه ، المفتاتين على شريعته ؛ حتى يقمعهم ويفضح باطلهم ، ويكون جريئا مقداما لا يخرسه خوف بأسهم ولا رجاء مودتهم ولا حب الحياة بمكان يهان فيه شرع الله وتهتك حرماته ؛ لأنه إن لم يتصف بذلك ونكص عن مجابهة أولئك كان جرمه أشد من جرم المتولي يوم الزحف ، فكان غير محقق لعبودية الرحمن ؛ لأن الغزو الثقافي والصراع الفكري أشد خطرا من الغزو العسكري ، وأسوأ غلبة في التأثير ؛ إذ فيه تسميم العقول وإذابة للأرواح ، وإذا كان قاتل الجسم يقتل قصاصا وتتخذ وسائل الدفاع لاتقاء شره ، فقاتل الأرواح ينبغي الاستعداد له والعمل على قمعه أزود من ذلك بكثير)2(۲) صفوة الآثار والمفاهيم ( 76/1)...
وضوح الهدف ونبل الغاية وتوحيد الهم والسعادة بذلك
إن المحقق لمدلول قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يصبح هدفه في هذه الحياة واضحا ومحددا وغايته نبيلة وشريفة ، كيف لا والغاية له في هذه الحياة أن يعبد الله عز وجل ويتقرب إليه في عمره المحدود ، ثم ينقلب إلى ربه سبحانه ليعيش هناك في الآخرة الأبدية السرمدية في رضوانه سبحانه وجنته ، وأنه إذا تحددت هذه الغاية النبيلة يصير العبد واضح الهدف محدد الغاية ؛ حيث يوجه همه کله لتحقيق هذه الغاية ، ويخضع كل شيء في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية العظيمة ، وبذلك يتوحد الهم في وجهة واحدة لا ثاني لها ، ألا وهي تحقيق العبودية لله سبحانه ، والاستعانة به عز وجل في تحقيقها والقيام بها على أحسن وجه .
وإن العبد بتوحيد همه في عبادة الله وحده يسلم من الصراع والتشتت وكثرة الهموم والأفكار ؛ لأن من تعلق قلبه بجهات عدة يسعى لخدمتها وإرضائها، يحبها ويذل لها ، إنه بهذا الصنيع يعيش مشوش النفس ، مضطرب الغاية ، غامض الهدف .
وقد ضرب الله سبحانه في كتابه الكريم مثلا للموحد الذي أسلم وجهه لله وحده ، وللمشرك الذي وجه وجهه لعدة شركاء ، ليسوا متفقين ، وإنما هم متشاکسون لا يدري المشرك من يرضي فيهم ، هذا وإن كان المثال في المشرك بالله الشرك الأكبر ، لكنه يستأنس به فيما دون ذلك من صور التعلق بغير الله سبحانه ، يقول الله عز وجل: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ۲۹].
ويعلق سید قطب رحمه الله تعالى على هذا المثل الذي ضربه الله سبحانه للموحد والمشرك ، فيقول: (وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال ، فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى لأنه يعرف مصدرا واحدا للحياة والقوة والرزق ، ومصدرا واحدا للنفع والضر، ومصدرا واحدا للمنح والمنع؛ فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته ، ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره ، ويخدم سیدا واحدا يعرف ماذا يرضيه فيفعله ، وماذا يغضبه فيتقيه.. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده ، وهو ثابت القدمين على الأرض، متطلع إلى إله واحد في السماء ، ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة)3(3) في ظلال القرآن، عند الآية 29 من سورة الزمر..
وإذا وجه العبد حياته كلها لتحقيق هذا الهدف العظيم، ألا وهو عبادة الله وحده ، فإنه يخضع كل شيء في حياته لهذا الهدف ، وإنه بذلك يحفظ وقته وعمره من أن يضيع في غير هذه الغاية فيشح بوقته النفيس وأنفاسه المعدودة من أن تضيع سدى ، بل يشغل جميع أوقاته ودقائق عمره فيما يعود عليه بالنفع في آخرته من عمل صالح ، أو دعوة إلى الله أو جهاد في سبيله ، ويتحسر على فوات الدقائق من عمره أعظم من تحسره على فوات الدنيا بأسرها ؛ ولذلك فهو يغتنم ويهتبل نعمة الفراغ والصحة والمال والشباب باستعمالها في طاعة الله عز وجل قبل فواتها ، وحتى أوقات راحته واستجمامه ومتعته ينويها عبادة لله عز وجل ليتقوى بها على طاعة أخرى بعد إجمام النفس ونشاطها .
كما ينتج من وضوح الغاية وارتباط القلب بها دون غيرها انضباط واتزان في حياة العبد وشخصيته فلا تضطرب موازينه في الحياة ولا يختل سلوكه ، ولا تنحرف مواقفه وأحكامه على الأمور ، ذلك لأنه ينطلق في ذلك كله من الغاية العظمى التي من أجلها خلق الله سبحانه الجن والإنس ، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56 – 58].
النظرة الصحيحة للدنيا والآخرة
عندما يتضح للعبد هدفه في هذه الحياة وأنه ما جاء إلى الدنيا إلا ليعبد الله عز وجل في عمره المحدود ، ثم ينقلب إلى ربه سبحانه ليجازيه على عمله، وأنه لا طاقة ولا حول ولا قوة له في القيام بذلك إلا بعون الله وتوفيقه .
إذا اتضحت له هذه الغاية ، فإن هذا سينعكس على نظرته الصحيحة لحقيقة الدنيا والآخرة ، وسيسلم من ذلك الفصام النكد بين الدنيا والآخرة ، والذي ما نشأ إلا من فساد في التصور لمفهوم العبادة في الإسلام ، فقد صرنا نرى من يعتزل الحياة ويترك عمارتها وإصلاحها ، ويترك الفساد يدب فيها، كل ذلك بحجة الزهد والإقبال على الآخرة ، وتهذيب النفس وتزكيتها.
وفي مقابل هذا الانحراف نشأ انحراف آخر ؛ ألا وهو الانشغال بالدنيا وزخرفها حتى آل ذلك إلى نسيان الآخرة والاستعداد لها .
أما العابد لله عز وجل على بصيرة فإن الله سبحانه يسلمه من هذه الانحرافات والشطحات ، فينطلق في هذه الدنيا ناظرا إليها على أنها مزرعة الآخرة ، وأنها متاع قليل سريع الزوال ؛ فيسعى فيها للتزود منها للدار الآخرة والتي هي دار القرار ، وفيها السعادة الحقيقية أو الشقاء الحقيقي .
ولذلك فإن من يحمل هذه النظرة الصحيحة ، لا يغتر بالدنيا ، بل يحذر منها ومن زينتها ، وفي نفس الوقت لا يعتزلها ولا يتركها تأسن وتفسد بحجة الزهد والعزلة عن الفساد ، بل يبذل قصارى جهده في إصلاحها ومحاربة الفساد فيها، ودعوة الناس إلى عبادة الله عز وجل ، وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا ، وحثهم على العمل في عمارة الأرض وإصلاحها، وتسخير ما يفتحه الله عز وجل من أمور الدنيا في عبادة الله سبحانه ، والتزود منها لدار البقاء والدوام .
يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالی: (عباد الله لا يستحبون الدنيا على الآخرة، فذلك من صفات الكافرين، بل يعتبرونها مزرعة للآخرة ، فيبذلون أقصى مجهودهم بجلائل الأعمال، والمسابقة إلى الخيرات ، وإصلاح الدنيا على وفق شرع الله، فسيرهم فيها وسط بلا إفراط ولا تفريط ، لم يجعلوها أكبر همهم ، ولم يتعلقوا بالمادة هذا التعلق المشين ، ولم يسلكوا الزهد الهندي الذي لم يشرعه الله ، فيعيشوا في بؤس وذلة ، ويضيعوا حق الله مما تقدم ذكره، وما سيأتي له مزيد .. .
فإنه بسبب هذا الزهد المذموم ، وما قذف به على الشرق من خرافات حصل تفريط كبير في نواحي الحياة ، فأطاحت بحرية أهله ؛ حيث ماتت فكرة الجهاد وما يستلزمه من إعداد القوة ، فمسخوا دين العزة والفتح والكرامة إلى دروشة وخنوع لكل مستعبد ، وتفريط في جنب الله ضاعت معه جميع المقومات)4(4) صفوة الآثار والمفاهیم (1/ 73)..
الهوامش
(1) العبودية ص 44.
(۲) صفوة الآثار والمفاهيم (76/1).
(3) في ظلال القرآن، عند الآية: 29 من سورة الزمر.
(4) صفوة الآثار والمفاهیم (1/ 73).
اقرأ أيضا
لوازم العبادة والتوكل .. الحكم بشرع الله والتحاكم إليه وحده ورفض ما سواه
الآثار السلوكية لتوحيد العبادة
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه