عندما تكون الثقة في قدر الله يرجع العبد الى نفسه باللوم عند التقصير ويصبر حتى ظهور المآلات، كما يزِن الأمور بموازين ربانية منضبطة؛ حليما لا يتعجل.
مقدمة
أوضحنا في مقال سابق (لا تحسبوه شراً لكم .. طمأنينة وسلامة قلب) ما يسكبه االإيمان بهذه السنة العظيمة من طمأنينة القلب وسكينته ويقينه في ربه تعالى ضمن دروس لا يستغني عنها قلب المؤمن، وهنا استكمال لما تستلزمه هذه السنة من آثار تعود على العبد بالنفع في عمله ورجوعه ومراجعته لنفسه، ومعرفة موازين الأشخاص والأشياء، وفي حلمه وصبره وهو مستبشر وواثق.
من ثمرات الإيمان بسنة الله «لا تحسبوه شرا لكم»
محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات.
ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
أما إذا حصل العكس من ذلك والعياذ بالله وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله تعالى؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة.
التعرف على سنن الله عز وجل في التغيير، والسير على هداها
إن إدراك معاني أسماء الله عز وجل وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سننه عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول، وبخاصة إدراك آثار حكمة الله عز وجل ورحمته ولطفه وإحسانه، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ يطبع في القلب شعوراً برحمة الله عز وجل وخيره وبِرِّه، وأن كل ما يقضيه عز وجل هو عين الخير والمصلحة والحكمة.
وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله عز وجل التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله عز وجل في التغيير؛ فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يَسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.
معرفة الموازين المنضبطة
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحوال والأشياء، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة؛ لأنها من عند الله عز وجل الحكيم، العليم، الرحيم، الودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون، والذي له الكمال المطلق، وهو الغَنيّ الحميد. وهو سبحانه يقول الحق، ويقصّ على عبيده ـ رحمة منه وفضلاً ـ جانباً من أسرار سنته وقدَره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.
جانب من سنن الله
ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله عز وجل وتوحيده، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من التفصيل، وذلك فيما يلي:
العاقبة للمتقين
إن وعد الله عز وجل لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل، ولقد قال وقوله الحق: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171- 173] هذا وعد الله سبحانه، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير.
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 141] يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الآية:
“قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم. وقيل: هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى. وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نُصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها بحمد الله؛ فإن الله سبحانه ضمِن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فحيث كانت لهم سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقرّوا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم، فدخلوا منها”. (1بدائع التفسير: ج2، ص85)
والحاصل مما سبق أن معرفة السنة السابقة لا تُفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله عز وجل وتوحيده؛ فإنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار، وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعْف الإيمان؛ لأنه والحالة هذه يستمر الفساد بدون إصلاح.
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. ومثلها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96].
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً.
استدراج الكافرين بالنعم
قوله (تعالى) : ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 178].
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً.
وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وألّا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم أو قِلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب دنياً وأخرى، وكم من أناس صالحين حُرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد، ولكنهم في خير وسعادة دنياً وأخرى. وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره، وصدق الله العظيم: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم﴾ والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، أذكر منها قوله تعالى: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55].
التؤدة والأناة وعدم الاستعجال
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله سبحانه إلا في ضوء ما أعلمه الله عز وجل عباده من السنن والثواب، فإنه والحالة هذه لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها، متجرداً في ذلك لله عز وجل، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل فإنه في الغالب يصدر عن الحق، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا (الحلم) و(الأناة) اللتان يحبهما الله عز وجل.. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ.
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة ما نراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم، وتعريض أنفسهم للابتلاء، وتمنيهم لمواجهة الأعداء.. وينسون أو يغفلون عن قوله: «لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا» (2متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد، باب (156) ، ج6، ص181 ومسلم في الجهاد، باب: كراهة تمني لقاء العدو، م3، ص1362) لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال.
وقد يتمنى العبد حالة معينة ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله عز وجل برحمته يحول بينه وبين هذا الأمر لِما يعلمه سبحانه من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه، فلما أصبحوا تحت وطأته ضعفوا وانتكسوا والعياذ بالله؛ فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته عز وجل ورحمته.
خاتمة
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بالله عز وجل وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه عز وجل يقدّر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته، وأنه سبحانه هو العليم الحكيم والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان: ﴿خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الأنبياء: 37] فطبيعته العجل والتسرع، إلا مَن منّ الله عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له، مع فعله للأسباب الممْكِنة، فإنه يَسلم من الأفكار المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم﴾ وصدق الرسول: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة». (3رواه: أبو داود في الأدب، باب: في الرفق، ج5، ص157 وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، رقم (1794))
……………………………
الهوامش:
- بدائع التفسير: ج2، ص85.
- متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد، باب (156) ، ج6، ص181 ومسلم في الجهاد، باب: كراهة تمني لقاء العدو، م3، ص1362.
- رواه: أبو داود في الأدب، باب: في الرفق، ج5، ص157 وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، رقم (1794).