قوة وثبات المسلمين يوم كنا عظماء

“حُفت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات”.. والطريق مليء بالمصائب والآلام، وليس بالطريق المفروش بالورود والأزهار، والسلعة غالية، لذلك كان لا بد أن يكون الثمن غاليًا؛ ﴿فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَأُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُوا۟ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟﴾ [آل عمران: ١٩٥] كل ذلك في سبيل الثبات، في سبيل النصرة، نصرة هذا الدين.

خُذ من دمائنا اليوم حتى ترضى

لقد بذلوا الأنفس والمهَج والأموال، تأتي الأخبار أن النبي ﷺ بعد أن أرسل رسله إلى الشام، تطاولت الروم على رسله، وقتلت مجموعة من الرجال دخلوا الشام للدعوة إلى الإسلام سلمًا، ثم الغساسنة تطاولوا على رسول رسول الله ﷺ فقتلوه، فحز ذلك واشتد على النبي ﷺ فأرسل إليهم ثلاثة آلاف رجل حتى تعلم فارس والروم أن في المدينة رجالاً يذودون عن حياض هذا الدين، ويصونون أعراض النساء..

جهّز النبي ﷺ الجيش، ورتب الإمارة، وساروا على بركة الله ووصلوا مؤتة، ثم سمعت الروم بأخبارهم فخرجت مرتزقة الروم العرب بمائة ألف، وخرج نصارى الروم بمائة ألف، فاجتمعا في ذلك اليوم على الثلاثة آلاف أكثر من مائتي ألف مقاتل، أسألكم بالله ماذا يستطيع ثلاثة آلاف من الرجال أن يفعلوا أمام هذا العدد الكبير؟ ماذا يستطيع أن يفعل هؤلاء أمام مائتي ألف من الرجال لو طوقوهم من كل الجهات، أما ينتهى الأمر في ساعات بل أقل من ذلك؟

تشاوروا فيما بينهم: هل نرجع؟ هل نرسل إلى النبي ﷺ نخبره بواقع الحال؟ فقالوا فيما بينهم: أنتم لماذا خرجتم أصلًا؟ وماذا تطلبون؟ وماذا تريدون؟ ألستم طلاب جنة؟ فهذه الجنة قد فتحت أبوابها! الجنة تحت ظلال السيوف! فقالوا: لا طريق إلى المدينة، إما النصر وإما الشهادة.. إما الجنة، وإما الانتصار.

ستة أيام من الكر والفر

فأعدَّوا العدة ودخلوا قرية يُقال لها مؤتة، وسميت المعركة باسمها، تحصنوا في داخلها، على مدى ستة أيام حرب ضروس، والروم بعددها وعُدَدها تحاول أن تنتصر على هذه القلة، فما استطاعت ستة أيام من الكر والفر، في اليوم السادس قُتل زيد، وفي نفس اليوم قُتل جعفر، وفي نفس اليوم قُتل عبد الله بن رواحة.

في المدينة التف الصحابة رجالًا ونساءً يتابعون الأخبار حيةً على الهواء! يتابعون أخبار الجيش الذي يقاتل من أجل نصرة الإسلام والمسلمين.. أريدك تخيل الواقع اليوم، التفوا حول نبيهم يتابعون أخبار المسلمين، والنبي ينقل لهم أخبار المعركة حية على الهواء وحيًا، واليوم نجلس أمام الشاشات، ونجلس أمام القنوات حتى نتابع أخبار المباريات، هذا الفرق بين الأمس واليوم، هم التفوا يتابعون أخبار المسلمين وهم ينصرون الله عز وجل وينصرون رسوله ﷺ، ونحن اجتمعنا على شاشات وقنوات في ضياع لا يعلمه إلا الله!

قال لهم النبي ﷺ وهو ينقل لهم أخبار المعركة: “أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قُتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قُتل شهيداً”. ثم صمت رسول الله ﷺ حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال ﷺ: “ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قُتل شهيداً”. ثم قال ﷺ: “لقد رفعوا إليّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب…”.

خذ اللواء يا أبا سليمان

تعالوا نرجع إلى أرض المعركة، فبعد سقوط القادة الثلاثة، حمل الراية ثابت بن أقرم وجعل يصيح: يا للأنصار! فجعل الناس يثوبون إليه، فنظر إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان. فقال خالد: “لا آخذه! أنت أحق به.. لك سن وقد شهدتَ بدراً”. قال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك!

لم يمضِ على إسلام خالد حينها إلا ثلاثة أشهر، خالد الذي خاض المعارك ضد المسلمين، وصنع بهم ما صنع يوم أحد، اليوم يخوض أول معركة مع الإسلام رافعًا راية لا إله إلا الله.

ثم نادى ثابت بالجيش وقال: أترضون بخالد بن الوليد قائدًا عليكم؟ قالوا رضينا، فتولى خالد الإمارة، وحمل الراية، ثم صعد أعلى مكان في المعركة، وميّز الأرض، وميّز المواقع، وغيّر الميمنة والميسرة، والمقدمة والمؤخرة، وبدأ يصول ويجول في المدينة.

وبعد أن نعى النبي ﷺ زيداً، وجعفراً، وابن رواحة للناس قال: “حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم”.

وقد حمى الوطيس، حمي بمعنى الكلمة، القتال حينها لم يكن كالقتال اليوم، قتال الجبناء، قتال الفرّار الذين يرمون القنابل، ويهاجمون النساء والأطفال، بل كان الرجل يواجه الرجال، فتطاير الرؤوس، وتتقطع الأشلاء، لك أن تتخيل في ذلك اليوم تعداد المسلمين ثلاثة آلاف، وهم يواجهون أكثر من مائتي ألف! يعني كان مطلوبًا من الرجل الواحد أن يواجه سبعين رجلًا من الكفار، أسألك بالله من أين استمد القوة؟ وأي صنف من الرجال هؤلاء؟

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

بأصناف هؤلاء الرجال تنتصر الأمة على العدد والعدة.

يوم أن استغاث أبو عبيدة رضي الله عنه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب المدد، أرسل له أربعة، قال له: “أرسلت لك أربعة كل واحد بألف”، ومرة أخرى أرسل له رجلًا واحداً هو المقداد بن عمرو، وقال عمر لقائد المسلمين هناك: أرسلت لك رجلًا سمعت النبي ﷺ يقول عنه: “جيش فيه المقداد لا يهزم بإذن الله”.

كم نحتاج إلى قراءة سيرة أولئك الرجال، كم نحتاج أن نعيد ماضي أولئك الآباء والرجال!

غيّر خالد الميمنة والميسرة، وبدأ يصول ويكر مع الرجال والأبطال، حاولت الروم أن تطوّق المسلمين ما استطاعوا، في اليوم الأخير من المعركة غيّر خالد الموازين، وأرسل رجالًا خلف الجيش يثيرون الغبار، ويكبّرون ويملأون أرض المعركة بالتكبير، خافت الروم قالوا على مدى سبعة أيام ونحن نقاوم لم نستطع، الآن وقد أتاهم مدد من المدينة كيف نستطيع أن نقاومهم؟

ثم بدأ خالد مع مائة من الرجال يصولون ويكرّون، حتى أوقعوا فيهم مقتلة لم تشهدها الروم من قبل، ثم بدأ يسحب الرجال من أرض المعركة بخطة عبقرية عجيبة يشهد له التاريخ بها حتى يومنا هذا، فأخرج الجيش من أرض المعركة، بعد أن أدب الروم، وبيّن لهم أن بالمدينة رجالاً يذودون عن حياض هذا الدين.

لذلك قال الله عز وجل عنهم: ﴿وَٱلَّذِینَ لَا یَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا۟ بِٱللَّغۡوِ مَرُّوا۟ كِرَامࣰا * وَٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِّرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ لَمۡ یَخِرُّوا۟ عَلَیۡهَا صُمࣰّا وَعُمۡیَانࣰا﴾ [الفرقان: 73-74] الباطل من احتفالات وأعياد ما أنزل الله بها من سلطان، أفراحنا في انتصارات المسلمين لا في اللهو واللعب والضياع، كانوا يحتفلون بانتصاراتهم في بدر والقادسية واليرموك، فأين انتصارات المسلمين اليوم؟ يقول قائلهم: رفعنا راية لا إله إلا الله في ملاعب الكرة، بعد أن كانت تُرفع في أرض القتال! رفعها الرجال.. كانوا أصحاب عاهات وإعاقات، لم تحُل بينهم وبين الوصول إلى الجنة.

يا رسول الله والله لأطئنّ بعرجتي الجنة”!

عمرو بن الجموح أعرج شديد العرجة يأتي إلى أبنائه حتى يشهد معركة أُحد مع المسلمين، فيقولون له: أنت من أهل الأعذار وقد عذرك الله! فيجادل أبناءه ويجادلونه في ردّه عن القتال، فيذهبون به إلى النبي ﷺ، ويخبره النبي ﷺ أنه من أهل الأعذار، فيقول بأعلى صوته: “يا رسول الله والله لأطئنّ بعرجتي الجنة”!

والله لن تحول إعاقتي بيني وبين الجنة! وقد صدق فيما قال، وكان من شهداء هذا اليوم، لما رأى النبي ﷺ صدقه قال: “خلوا بينه وبين ما يريد”.

قد تقول أعرج.. بل أقول لك بل الأعمى! فليس الأعمى أعمى البصر، لكن العمى عمى البصيرة، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦]، يوم أن نادَى عمر بخروج جيش اليرموك، خرج ابن أم مكتوم، خرج مع الخارجين ولبس عدة القتال، فقال له عمر: إلى أين؟ قال: يا ابن الخطاب تحول بيني وبين الشهادة؟ قال عمر: ماذا تصنع معهم؟ قال: أُكثّر سواد المسلمين!

فإن لم تكن معهم فلا تكن ضدهم، لا تحارب أهل الاستقامة، إن لم تستطع أن تفعل فعلهم فلا تكن ضدهم..

خرج فلما صفت الصفوف لم يقف مع المتأخرين خلف الصفوف، بل توسط أرض المعركة، وقال لهم: “أنا أكفيكم الراية”.

أتدري معنى حمل الراية؟

أنا أحمل راية لا إله إلا الله في أرض المعركة لا في الملاعب والمدرجات، أحملها والدماء تسيل والأشلاء تتطاير، أتدري معنى حمل الراية؟ من أصعب المهمات في أرض المعركة أن تحمل الراية، فكل فريق يسعى لإسقاط راية الفريق الآخر.

وبدأت الرياح والنبال تأتي يمنةً ويسرةً، وهو قد رفعها ثابتًا راسخًا في أرض المعركة، بدأت المعركة مع طلوع الشمس، تعداد المسلمين أربعون ألفًا يزيدون أو ينقصون، تعداد الفريق الكافر مائتان وأربعون ألفًا، لم يأتِ مغيب شمس ذلك اليوم إلا وقد حُسمت المعركة، أوقع المسلمون في الروم في ذلك اليوم مقتلة بلغت أكثر من مائة وعشرين ألفًا من الكفار! وصلّى خالد في آخر اليوم في خيمة قائدهم.

كانوا يساومون المسلمين قبل دخول المعركة، طلب قائدهم ماهان خالداً ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها.

يريد أن يكسر عزة المؤمن، وثبات الصادقين، فقال له خالد في عزة المؤمنين المستمدة من كتاب الله: “إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم. فجئنا لذلك”. ثم كبّر خالد وكبّر الجيش معه.

يقول أحدهم لأبي عبيدة في أرض المعركة: إني قد عزمت على الشهادة ولقاء النبي ﷺ فأوصني. قال: أقرئ النبي مني السلام، وقل له: إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، أقرئ النبي مني السلام، وقل له جزاك الله خير ما جازى نبيًا عن أمته، وقل له: إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً.

أين الرجال اليوم؟

فأين الرجال اليوم؟ ها هو الأقصى يلفّ جراحه، والمسلمون جموعهم آحاد، يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا وشيبنا؟ أو ما لنا سعد ولا مقداد؟ لماذا يتساقط الناس أما الشهوات، أمام المغريات، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون؟

الذي يريد ما عند الله لا يهون ولا يضعف..

﴿وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ * وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُوا۟ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِیۤ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾[آل عمران: ١٤٧].

المصدر

مجلة أنصار النبي، الشيخ خالد الراشد.

اقرأ أيضا

ذل الأمة بتركها الجهاد

من مؤتة إلى طوفان الأقصى: أثر العقيدة في الميدان

نعيش بعزة الإسلام أو نموت بشرف

التعليقات غير متاحة