الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..أما بعد:

فيقول الرسول ﷺ: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه”1(1) [موطأ مالك (3338) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (186)]..

فهنيئا لمن تمسك بكتاب ربه سبحانه وسنة نبيه ﷺ وجعلهما مصدر هدايته، ومنطلقا لموازينه، وأحكامه، ومواقفه! ويا خيبة وخسارة من أعرض عنهما ولم يجعلهما مصدر هدايته وأحكامه! لأن مفهوم الحديث يدل على أن من لم يجعل الكتاب والسنة منطلقا لفهمه وموازينه فإن مآله التخبط والحيرة والظلال. وإن المسلمين اليوم وخاصة دعاتهم وعلماءهم ومجاهديهم لفي أمسِّ الحاجة إلى أن ينهلوا من الكتاب والسنة أهم القواعد الضرورية لفقه النوازل والأحداث التي تعينهم على اتخاذ الموقف الصحيح والميزان الحق إزاءها، وبيان تلك المواقف للناس وإزالة اللبس والتضليل الذي يمارسه الملبِّسون الماديون الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الأخرة هم غافلون.

أهم القواعد الضرورية لفقه النوازل والأحداث

ونصحا لنفسي ولإخواني المسلمين ولاسيما الدعاة منهم والمجاهدين أكتب في هذه الورقات ما فتح الله عز وجل به من الوقوف على أهم القواعد التي يقوم عليها الموقف الصحيح في التعامل مع الأحداث، والنوازل، والطوائف، والأفراد. وسأبذل الجهد بعون الله تعالى وتوفيقه على أن يكون دليل ومنطلق هذه القواعد هو الكتاب والسنة:

القاعدة الأولى: مركزية الوحي في معرفة وفهم هذه القواعد

قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9]، وقال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:57]، وقال سبحانه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة:15-16]، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل:89].

ومر بنا قوله ﷺ: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه”.

وأكتفي بهذه الأدلة شاهدا على هذه القاعدة العظيمة والتي سأنطلق منها في تقرير القواعد كلها إن شاء الله تعالى.

القاعدة الثانية: القومة لله عز وجل في التعامل مع الأحداث والحكم عليها

قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ:46].

والقيام لله تعالى يعني الإخلاص والتجرد من كل هوى وحسد وحظ للنفس أو تحزب لطائفة أو شيخ لأن الهوى وحظ النفس لهما تأثير كبير في المواقف والأحكام فإذا لم يحذر المسلم من هذه الآفات التي تضعف الإخلاص والقيام لله تعالى فإن العبد ولا شك ستميل به هذه الأهواء عن الحق وحينئذ لا يوفق للموقف الذي يحبه الله تعالى إزاء النوازل والأحداث؛ لذا يحتاج المسلم قبل أن يتخذ موقفا من حدث أو نازلة أو طائفة أن يتفقد نيته ويطمئن إلى أن قيامه إنما هو لله تعالى وابتغاء الحق وليس لأي غرض آخر أو حظ من حظوظ النفس.

ومما يلحق بهذه القاعدة كذلك أن يكون القائم لله حريصاً كل الحرص على الجماعة والائتلاف، كارها للفرقة والاختلاف.

القاعدة الثالثة: معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا

قال الله سبحانه: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ﴾ [الروم:4]، وقال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران:154]، وقال سبحانه: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود:123]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس:31].

إن العلم بالله عز وجل وأسمائه الحسنى وآثارها لهو أشرف العلوم وأنفعها لأن شرف العلم من شرف المعلوم. وإن النظر إلى الأحداث والنوازل في ضوء العلم بالله عز وجل وأسمائه لمن أعظم الأسباب في معرفة الحق والانقياد له. فإذا علم العبد أن الله عز وجل هو الخالق الرازق مالك الملك القاهر فوق عباده العليم الحكيم العزيز العظيم، لا يحصل في كونه وملكه شيء إلا وقد علمه وكتبه وأراده وخلقه بعلمه وحكمته. إذا استقر ذلك كله في قلب المسلم نفض يده من الأسباب ورد الأمر كله لله تعالى؛ وإلى قدرته وحكمته وعلمه؛ فلم يخف إلا الله عز وجل ولم يرجوا إلا هو، وأصبح حسن الظن بربه وبأفعاله سبحانه هو المنطلق في تعامله مع ربه وقضائه وقدره وفوض أمره إلى ربه وتوكل عليه وحده، وغاب الخلق عن قلبه فلم يرهم شيئا مهما بلغت قوتهم؛ لأنهم في قبضة الله عز وجل ونواصيهم بيده ولا يستطيعون إحداث شيء إلا بإذنه سبحانه؛ وإنما هم منفذون لما يريده الله عز وجل ويقدره قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام:112]، وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:253]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة:102]، وصدق ابن القيم رحمه الله تعالى حين قال: (الخلق والأمر مقتضى أسماء الله الحسنى) ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54]، وحين يغيب هذا البعد من العقيدة أعني رد الأمور كلها إلى الله عز وجل وقضائه وقدره وحكمته، حين يغيب هذا فإن العبد لا يوفق إلى الحق في النظر في الأحداث وتحليلاتها.

القاعدة الرابعة: العلم بالسنن الإلهية

قال الله عز وجل: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137]، وقال سبحانه: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر:43].

إن المعرفة لسنن الله عز وجل في خلقه وأمره تضبط تفكير المسلم ومواقفه وموازينه ونظرته للأحداث والنوازل وتقلباتها وتفسيرها ويهديه الله بها للمواقف الصحيحة في التعامل معها والحكم عليها مما يضفي على النفس الطمأنينة والثبات فلا يتيه ولا يضطرب ولا يتناقض في مواقفه وأحكامه.

ويعنى بالسنن تلكم الموازين والنواميس الثابتة التي يدبر الله عز وجل بها خلقه وأمره ويسير بها نظام ملكوته في السموات والأرض، ومن ذلك: سننه سبحانه في الخلق والأمر والهدى والضلال وفي الأرزاق والآجال وفي نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين… وغيرها من السنن والتفسيرات الربانية التي فيها الإجابات المريحة لما يحتاج العباد إلى معرفته مما لا سبيل لهم إلى معرفته إلا عن طريق هذا الكتاب الكريم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والسنة: هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول؛ ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار)2(2) [الفتاوى:13/20]..

وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذه السنن وساروا في ضوئها ففتح الله على أيديهم الدنيا وأوصلوا نور الإسلام وهدى القرآن إلى العالمين فعاشوا في ظله منعمين آمنين، وكان من نجباء الصحابة رضي الله عنهم الذين فقهوا هذه السنن الإلهية وعملوا بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وكان من فقهه لسنن الله عز وجل في النصر والهزيمة: وصاياه لجنود المسلمين؛ حيث يدعوهم بأن يحذروا الذنوب وأنها عنده أخوف من عدوهم وعددهم وعتادهم، وأنها هي سبب الهزائم والفشل.

ومن فقهه أيضا رضي الله عنه لسنن الله عز وجل في قضائه وقدره: قصته المشهورة حينما ذهب إلى الشام وأُخبر بانتشار الطاعون فيها. حيث قرر عدم الدخول في البلد الذي انتشر فيه الطاعون، ولما قيل له: “أَفِرَارًا من قدر الله” قال رضي الله عنه: “نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله”3(3) [البخاري:5729]..

والسنن الإلهية قسمان:

  • السنن الكونية: المشاهدة في الأفاق والأنفس، وكونها تخضع لنظام دقيق بتدبير العزيز الحكيم العليم الخبير الرؤوف الرحيم فالنار تحرق والجاذبية تسقط من علو إلى أسفل، قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:40]، وقال سبحانه: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه:50]، وقال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت:53]، وقال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2].
  • السنن الاجتماعية: وهي التي جعلها الله عز وجل تحكم حياة البشر؛ ويسير الله عز وجل أمورهم وأحوالهم بها؛ كسنن السعادة والشقاء، وسنن السراء والضراء، والهدى والضلال، والهزيمة والنصر، والأسباب ومسبباتها، وكذلك سنة المدافعة بين الحق والباطل، وسنة الابتلاء والتحميص لعباده المؤمنين، وسنة الإملاء للظالمين، ويتسم هذا النوع من السنن بالثبات والاطراد، والعموم والشمول.

فأما أنها ثابتة: لقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:62].

وأما كونها مطردة: فلأنها لا تتخلف إذا توافرت شروطها.

ويدل على اطرادها: أن الله قص علينا قصص الأمم السابقة، وما حل بها من العقوبات لنتعظ ونعتبر ولا نفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطِّرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها كما قال تعالى معقبا على ما حل بيهود بني النضير من الذلة والجلاء عن المدينة: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2]؛ أي: احذروا أن تفعلوا فعلهم فيحل بكم ما حل بهم.

وأما كونها عامة: فلأن سنة الله عز وجل لا تحابي أحدا وإنما يسري حكمها على الجميع؛ قال تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر:43]، وقال سبحانه: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء:123].

ولولا ثبات السنن واطِّرادها وعمومها لما كان هناك معنى في ذكر قصص وأخبار الأمم السابقة وطلب الاعتبار بما حل بهم، وهذا النوع من السنن لم يعرف أن الله عز وجل خرقها لأحد من خلقه.

وقد مر بنا تعريف شيخ الإسلام للسنن بقوله: (والسنة: هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول؛ ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار).

القاعدة الخامسة: التثبت والتبين

وأصل هذه القاعدة قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]، وقوله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:94].

ويدخل تحت التثبت الأمور التالية:

  • التثبت من الحدث والنازلة نفسها والتأكد من وقوعها من مصادر موثوقة، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:6].
  • بعد الاطمئنان على صحة وقوعها؛ يلزم التثبت من الظروف والملابسات التي أحاطت بالحدث؛ وأفرزت وقوعه، وهذا ما يسميه أهل العلم بفقه الواقع وتصوره، لأن في ذلك ما يعين على اتخاذ الحكم والموقف المناسب للحدث، وقديما قيل (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
  • التثبت من الحكم الشرعي المناسب إنزاله على الحدث بقياسه على نظائره. وقد تحدث الإمام ابن القيم عن هذين الفهمين أعني فهم الواقع؛ وفهم حكم الله في مثله فقال: (إن المفتي أو الحاكم لا يتمكن من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
  • فهم الواقع والفقه فيه وذلك باستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
  • فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ في هذا الواقع؛ ثم يطبق أحدهما على الآخر)4(4) [إعلام الموقعين 1/ 69]..

وإن التثبت من الواقعة ودوافعها وملابساتها منهج نبوي تراه في تعامله ﷺ مع مواقف الصحابة وأخطائهم؛ فها هو يسأل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عن دوافعه التي جعلته يقع في مخالفة عظيمة؛ قبيل فتح مكة. حيث أرسل إلى أهل مكة يعلمهم بمجيء النبي ﷺ لفتحها. والنبي ﷺ لا يريد معرفة أهل مكة بذلك. فقبل أن يعاتبه أو يعاقبه سأله عن دوافعه بقوله ﷺ:”ما حملك يا حاطب على ما فعلت” فأخبره بالدوافع التي اطمأن ﷺ بمعرفتها أنه صادق وأنه ليس منافقا؛ وإن كان لم يقره على خطئه. ونظرا لأهمية هذا النوع من التثبت أزيده إيضاحا فأقول: لقد استعجل كثير من الطيبين باتخاذ موقف، أو نقد، من حدث أو طائفة أو شخص؛ بمجرد ظهور بعض التجاوزات والمخالفات؛ من دون أن يتثبت من ملابسات الحدث، ودوافعه والظروف التي أحاطت بوقوعه، وقد يكون غائبا عن الحدث ولم ير جميع مشاهده وأجزائه؛ وإنما وقف مع جزء واحد وتركيبة واحدة من تراكيب كثيرة في لوحة الحدث؛ فحصل بهذا الاستعجال ظلم وجور ومواقف خاطئة، وكما يقال: (الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) (وليس الخبر كالمعاينة).

  • التثبت من مآلات الحكم على الحدث:

وذلك بعد أن يُعمل الأمور الثلاثة السابقة من التثبت ويصل إلى الموقف الصحيح من الحدث؛ فينبغي أن ينظر في مآلات نشر الموقف وإذاعته. فإن كان سيترتب على نشره مصالح شرعية مع انتفاء المفاسد أو أن المفاسد قليلة فلينشر. وإن كان سيترتب على ذلك مفاسد كبيرة تضر بالمسلمين ودعاتهم ومجاهديهم؛ كأن يكون في ذلك فرح للأعداء، وشماتة منهم بالمسلمين، أو أن الأعداء يوظفونه في عدائهم للمسلمين، وجعله ذريعة لمزيد من الظلم والعدوان، فحينئذ لا يجوز نشره والحالة هذه.

  • ومن التثبت كذلك استخارة الله عزوجل وكثرة سؤاله والافتقار والتضرع إليه. واستشارة أهل العلم والتجربة والخبرة، وكل هذا من التؤدة المطلوبة شرعا.

القاعدة السادسة: العدل والانصاف

قال الله تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:9]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام:152]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة:8].

إن ما يقع اليوم من أحداث كبرى في بلدان المسلمين؛ ليحتم على المسلم وهو يبحث عن الواجب عليه إزاء هذه الأحداث أن يتحرى العدل، ويحذر من الظلم وبخس الناس حقوقهم.

وإن مما يدخل تحت العدل:

  • القسط مع المخالفين سواء كانوا طوائف أو أفراد، وأن يكون الموقف منهم الموازنة بين حسناتهم وسيئاتهم؛ لا سيما إن كانوا أهل بلاء حسن، وجهاد، وأثر طيب في الأمة، فإذا صدر منهم بعض التجاوزات والأخطاء؛ فينبغي أن نتثبت منها ومن ملابساتها أولا؛ ثم إذا ثبت؛ فإنه يلزم العدل مع المجاهدين والفاتحين. فلا ينسينا خطأ، أو خطائين، أو أكثر، ما من الله به عليهم من حسنات، وبلاء، وجهاد، وشرف لهم بمجاهدة أعداء الله، والنكاية فيهم في مجالات كثيرة.
  • فمثلا في طوفان الأقصى؛ وأبطاله المجاهدون؛ نرى بعض المنتسبين للعلم أو الدعوة فتح معهم باب الخصومة والانتقادات، وتحميلهم ما جرى ويجري في غزة؛ من الدمار والقتل دون أن يعرف ظروف ما قبل الطوفان، ودون أن يفتح عينه الأخرى على الانتصارات العظيمة؛ التي حققها الله عز وجل على أيديهم في هذا الطوفان المبارك ومنها:
  1. استيقاظ الأمة؛ وشعورها بانتمائها وهويتها الإسلامية؛ التي كاد الأعداء أن يطمسوها.
  2. ارتفاع فهم أبناء الأمة ووعيهم بحقيقة أعدائهم من الكفرة والمنافقين، واليقين بأن الحرب مع اليهود والصليبية العالمية إنما هي حرب عقيدة؛ مهما دلس الأعداء برفع مبررات أخرى للحرب.
  3. افتضاح الغرب الكافر أمريكا وأوروبا؛ وظهور حقدهم الشديد على المسلمين. كما ظهر كذبهم وزيف شعاراتهم الديمقراطية، وانفضحت هيئاتهم التي تزعم حماية حقوق الإنسان والمرأة والطفل. وعرف ذلك العالم كله؛ بما في ذلك شعوبهم المخدوعة، كما بان للعالم معاييرهم ومكاييلهم المزدوجة. وفي هذا خير للمسلمين ولمن كان مخدوعا بهذه الشعارات.
  4. وعي المسلمين بالمنافقين؛ دولا وطوائف وأفراد؛ الذين ظهر ولاؤهم للكفار، وخذلانهم للمسلمين، وفي هذا خير ليميز الله الخبيث من الطيب.
  5. أحبط الله عز وجل بهذا الطوفان خططا ومؤامرات كانت في لمساتها الأخيرة لبيع فلسطين؛ وتصفية القضية الفلسطينية. فأحبط التطبيع مع اليهود وما يترتب عليه؛ وقضي على ما يسمى بصفقة القرن، والبيت الإبراهيمي.
  6. ظهور آيات الله ومعجزاته؛ في صمود فئة قليلة أمام قوى الكفر العالمية، ومرغ أنف اليهود في التراب، وسقطت أسطورة الدولة التي لا تهزم.
  7. ما أصاب اقتصاد اليهود من الدمار، واختلاف كلمتهم، وتعطل مصانعهم ومزارعهم، ونزوح سكان غلاف غزة وشمال فلسطين من اليهود، وهجرة مئات الألوف من اليهود إلى الخارج.
  8. صمود المجاهدين، وظهور صور من البطولات والتضحيات العظيمة، ونكايتهم بالعدو عتادا وأفرادا.

فأين المنتقدون لمجاهدي غزة عن هذه المصالح العظيمة، ولماذا يغضون الطرف عنها، ويقفون فقط عند ما فعله اليهود من قتل وتدمير لغزة وأهلها؛ والتي هي شرف وفخر لأهلها؛ ورجاء الشهادة لمن قتل؛ والأجر والعظيم والشفاء العاجل لجرحاهم، ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:104]، ولا سواء فقتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار.

وإن العدل بذكر الحسنات بجانب الأخطاء والموازنة بينهما؛ له أدلته من الكتاب والسنة فمن ذلك:

قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:22]، وقد نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حينما أقسم ألا ينفق على مسطح رضي الله عنه؛ وكان فقيرا وقريبا لأبي بكر؛ لأن مسطح ممن شارك في قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فنهى الله عز وجل أبا بكر أن يقطع النفقة عن مسطح؛ ولو حصل منه ما حصل؛ لأن له حسنات تغطي على ما تورط فيه من قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ومن ذلك أنه من المهاجرين الأولين الذين هاجروا وتركوا أموالهم وأوطانهم في سبيل الله عز وجل، فعاد أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الانفاق على مسطح. والشاهد من هذه الآية الكريمة ذكر الله عز وجل حسنات مسطح بجانب خطيئته المغمورة في حسناته العظيمة.

أما من السنة والسيرة النبوية فيتضح ذلك في موقفه ﷺ من الخطأ الكبير الذي ارتكبه حاطب بن أبي بلتعة؛ لما أرسل خطابا إلى المشركين يعلمهم فيه بغزو الرسول ﷺ لهم في مكة؛ فلما سأل حاطبا عما حمله على ما صنع؛ واطمأن الرسول ﷺ إلى صدقه؛ وأنه ليس منافقا، ولا مظاهرا للمشركين؛ قال ﷺ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استأذنه في ضرب عنقه: “يا عمر أليس من أهل بدر فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم. فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم”5(5) [البخاري:3082].. فلم ينسه ﷺ خطأ حاطب حسنته العظيمة في حضوره بدرا.

ورحم الله شيخ الإسلام حين قال: (إن الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بظلم وجهل).

ومما يدخل تحت العدل أيضا: عدم تعميم خطأ الطائفة على جميع أفرادها.

ومما يدخل تحت العدل أيضا: رد المتشابه للطائفة أو أفرادها إلى المحكم من أقوالها ومواقفها.

وكذلك مما يدخل تحت العدل: عدم إلزام الشخص بلازم قوله.

القاعدة السابعة: فقه الموازنات

إن هذا العلم الشريف لَمِنْ أهم علوم الشريعة ومقاصدها، وهو فقه لا يستغني عنه أحد من أهل الدنيا ولا من أهل الدين؛ حيث إن أهل الدنيا في تعاملاتهم ومؤسساتهم وتخطيطهم؛ ومنهم أهل السياسة والحكم قد بنوا إداراتهم ومصالحهم على فقه الموازنات والأولويات، وبالجملة فالموازنة بين المصالح والمفاسد مركوز في الفطر ومعتبر في العقل والشرع فهو حقيقة شرعية وعقلية وفطرية. وهو قائم على أخذ خير الخيرين وترك شر الشرين عند التعارض. وأدلة هذا النوع من الفقه كثيرة في الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم.

ففي كتاب الله تعالى قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام:108]، وقوله تعالى عن الخمر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219]، وقوله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217].

ومن السنة والسيرة النبوية بنود ما تصالح عليه الرسول ﷺ مع المشركين يوم صلح الحديبية. ومن ذلك تركه ﷺ هدم الكعبة وإدخال الحجر، وإلصاق بابها بالأرض، وجعل بابين لها، فترك ﷺ ذلك كله مع رغبته فيه؛ لما سيترتب عليه من فتنة وفساد، وذلك ظاهر في قوله ﷺ لعائشة: ” لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة …”6(6) [مسلم:1333]..

ومن ذلك تركه ﷺ قتل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول خشية أن يقال إن محمدا يقتل أصحابه.

أما مواقف الصحابة رضي الله عنهم فكثيرة منها: تسيير أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيش أسامة بن زيد مع حاجته إليه لأن النبي ﷺ عقد له قبل موته.

ومن ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معيار المفاضلة بين الصحابة رضي الله عنهم في الأعطيات حيث يقدم ويعطي من له سابقة في الإسلام على من تأخر، وكذلك اجتهاده في عدم تقسيم غنائم الجهاد في سواد العراق وجعله لمصالح المسلمين وجهادهم. ومن ذلك عدم إقامة حد السرقة على من سرق في عام الرمادة من الجوع.

ومن ذلك ما فعله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما قيل له أن عثمان رضي الله أتم الصلاة الرباعية في الحج بمنى فاسترجع ثم أتم معه مع اعتقاده أن السنة القصر فلما قيل له لماذا أتممت قال: (إن الخلاف شر) فقدم الحفاظ على الجماعة وعدم التفرق على السنة.

المعايير التي ينبغي مراعاتها عند التعارض:

  • اليقين: من وجود المصلحة أو المفسدة حيث يقدم المتيقن بوقوعها على المتوهم.
  • الشمول والعموم: فتقدم المصلحة الأعم على الأخص وتقدم المفسدة الأخص على الأعم.
  • الديمومة: يقدم تحصيل المصلحة الدائمة على المؤقتة ويقدم ترك المفسدة الدائمة على المفسدة المؤقتة.
  • الكمية: حيث تقدم المصلحة الأكثر خيرا على الأقل، وتقدم المفسدة الأقل على الأكثر.
  • الكيفية: حيث تحصل المصلحة الأقوى أثرا على المصلحة الأقل، ويقدم ترك المفسدة الأقوى أثرا على الأقل.
  • الدنيوية والأخروية: فيقدم الأخذ بالمصلحة الأخروية على الدنيوية، ويقدم ترك المفسدة الأخروية على ترك الدنيوية.
  • التراخي: فتقدم المصلحة العاجلة على التراخي والآجل منها، ويقدم ترك المفسدة العاجلة على المتراخية.

أمثلة على تطبيقات هذه القاعدة:

  • السكوت على بعض المنكرات عند العجز عنها أو ما سيترتب على الإنكار من مفاسد أكبر.
  • مدارات الكافر أو المبتدع وعدم إظهار عداوته عند العجز عن ذلك بشرط ألا يتحول ذلك إلى إقرار له أو مداهنة.
  • رواية بعض أئمة الحديث من السلف عن المحدثين القدرية لكيلا يندرس العلم والسنة والآثار المحفوظة عندهم.
  • هجر المبتدع أو الفاسق حسب ما يحققه الهجر، فإن كان في الهجر مصلحة رجوع المبتدع عن بدعته، والفاسق عن فسقه وإلا فلا.
  • إقامة الجهاد مع من فيه بدعة، أو فسق، إذا لم يوجد غيره؛ لأن مقاصد الجهاد مقدمة على عدالة من يجاهد معه على ألا يكون كافرا.
  • تأجيل إقامة الحدود على أهل الكبائر في الحرب إلى ما بعد الرجوع إلى الديار بعد انتهاء الحرب.
  • عدم إذاعة أخطاء المجاهدين والدعاة؛ لكيلا يوظفها الأعداء في حرب الإسلام وتشويه سمعة أهله، مع ما في ذلك من إيغار الصدور والفرقة والاختلاف. ومثال ذلك: ما يقوم به بعض المشايخ عفا الله عنهم اليوم من نقد علني لجماعة حماس في فلسطين؛ في هذا الظرف الذي اجتمع عليهم ملل الكفر والنفاق؛ دون تفكير لمآلات كلامهم هذا؛ وتوظيف الأعداء له.
  • الصبر وترك المواجهة القتالية لأهل الباطل في حالة عدم القدرة؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد مع وجوب الإعداد لإزالة العجز.
  • تقديم طاعة الوالدين على الجهاد الكفائي.
  • التحالف مع أهل البدع دون الكفرية لصد كافر قوي يريد استباحة ديار المسلمين؛ وليس لأهل السنة قوة على دفعهم.

ومما يلحق بذلك الحذر من الخصومات مع بعض الجماعات الإسلامية التي لديها بعض الأخطاء في ظروف الجهاد مع الكفار المحاربين لله ولرسوله ﷺ بل يناصحون سرا ويتعاون معهم في رد الكفر وجهاد أهله.

  • ترتيب منازل المخالفين والأعداء، لأن الأعداء ليسوا على درجة واحدة في العداوة والمخاطر؛ فخطورة المنافق والكافر وعداوتهما أشد من المبتدع بدعة غير مكفرة، والكافر نفسه يختلف بين الكافر المسالم، والكافر المحارب الصاد عن سبيل الله، فلا يترك الأخطر وننشغل بمن هو أقل خطرا.

القاعدة الثامنة: أحوال الاستضعاف يسعها ما لا يسع أحوال القوة والتمكين

قال الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام وقومه لما هددهم فرعون بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:128].

وقال سبحانه: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء:98-99].

إن أحوال الاستضعاف تقتضي استدعاء بعض الأحكام الشرعية التي تفارق فيها أحوال القوة والتمكين، بحيث يجوز في بعض الأمكنة، والأزمنة، أو الأحوال؛ التي يعيش أهلها حالة استضعاف من أعدائها؛ ما لا يجوز في أحوال التمكين.

وتعمل بعض القواعد الشرعية عملها في تلك الأحوال؛ كقاعدة الضرورة، وأحكام الإكراه، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، والحرج مرفوع شرعا، وقاعدة لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وغيرها من القواعد الشرعية؛ مع مراعاة شروط وضوابط تطبيق هذه القواعد.

ومما يُقَاوَمُ به الاستضعاف مداراة الظالمين؛ لكف شرهم؛ على ألا يؤول ذلك إلى المداهنة والتنازل عن المبدأ.

والاستضعاف قد يقع على أفراد، أو جماعات، أو دول. وفقه الاستضعاف هو فرع من فقه الموازنات.

الاستضعاف المذل والاستضعاف المقاوم:

كثير من الناس يذل ويستخذي للظالمين في أحوال الاستضعاف؛ بل يصل ببعضهم إلى اتباعهم في ظلمهم وباطلهم، والرضى بالواقع، وهذا استضعاف مذل حذر منه القرآن الكريم، ويخالف سيرة الرسول ﷺ وصحبه الكرام، والمطلوب من المسلم في أحوال الاستضعاف أن يقاوم الاستضعاف، ويبذل جهده في رفعة، لا أن يستسلم ويذل.

 ومن أوجه المقاومة في أحوال الاستضعاف:

  • التوبة إلى الله عز وجل من الذنوب والمعاصي التي ربما كانت السبب في تسليط الأعداء واستضعافهم للمسلمين.
  • البراءة القلبية مما يمارسه أهل الباطل من الفساد، والظلم، وعدم مشاركتهم فيه.
  • القضاء على أسباب الفرقة والاختلاف، والسعي إلى جمع كلمة المستضعفين.
  • الإعداد لمواجهة الظالمين؛ إعدادا إيمانيا، وعلميا، والأخذ بالأسباب المادية للمواجهة.
  • جواز التحالف والمعاهدات مع بعض أهل البدع؛ بالضوابط والشروط الشرعية.
  • الهجرة من أماكن الاستضعاف إلى مكان آخر يستطيع فيه إظهار دينه والدعوة إليه، ويكون أقل فسادا، وظلما، فإن لم يمكن ذلك وجب الصبر، والإعداد، والاستعانة بالله عز وجل، كما قال موسى لقومه: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾.
  • التفاؤل بذهاب الباطل وأهله؛ والذي يثمره معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وإحسان الظن به عز وجل.

التسديد والمقاربة في أحوال الاستضعاف:

ثبت عنه ﷺ قوله: “سددوا وقاربوا وابشروا”7(7) [مسلم:2818، والبخاري:6464]..

أي: اقصدوا الصواب قدر استطاعتكم، ولا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم؛ فإن لم يمكن الصواب فاقتربوا منه قدر استطاعتكم.

في هذا الحديث فائدة كبيرة لمن يعيش أحوال الاستضعاف اليوم من أفراد أو طوائف أو دول مسلمة، وهي العمل بالمقاربة من الصواب إن لم يمكن إصابته تماما، وهذا يحتاج إليه كثيرا في أحوال الاستضعاف والضعف. فما أمكن فعله من الصواب يصار إليه فإن تعذر ذلك فالقرب منه ما أمكن.

وفي فقه هذه القاعدة إعذار لمن لم تتاح له القدرة على فعل الأمثل، لكننا نطالبه في حال العجز أن يفعل ما أمكنه من فعل الحق وتخفيف الشر (فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة).

فلا يقعدنا الحرص على (فعل الصواب) عن العمل بالممكن مما هو قريب من الصواب. كما لا يدفعنا (العمل بالممكن) التنازل عن الحق والصواب. وفي حالة عدم التمكن من الصواب التام ألا ييأس المسلم من رحمة الله في عدم إصابته للحق؛ بل البشرى للمجتهدين المجاهدين في تسديدهم ومقاربتهم.

أمثلة معاصرة للأخذ برخص الاستضعاف:

  • التحالف مع بعض أهل البدع من أهل القبلة في مقاتلة أهل الكفر والنفاق والزندقة الذين يريدون طمس الهوية واجتثاث جذور الدين.
  • إذا كانت الدولة المستضعفة فتية ولها أعداء متربصون فيسوغ لها رد كيد الكفار الغزاة ببعض المعاهدات، أو بعوض مالي.
  • إذا قامت دولة شرعية والأعداء متربصون بها والناس فيها يعيشون عقودا بعيدا عن الإسلام فلها أن تتدرج في تطبيق بعض أحكام الإسلام أو إقامة الحدود.
  • جواز التشبه بالكفار في الهدي الظاهر لدفع شرهم أو اختراقهم ليكون عينا للمسلمين عليهم ولو أدى إلى إخفاء بعض الشعائر التعبدية وفعلها في السر لو اقتضى الأمر ذلك.

القاعدة التاسعة: محورية الولاء والبراء في النظر إلى الأحداث

الولاء والبراء هو صلب كلمة التوحيد؛ وركناها. والنظر إلى الأحداث والنوازل بمنظور شرعي يحتم أن يكون من أهم الموازين التي ينطلق منها في الموقف من الأحداث هو ميزان الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراءة من الشرك والمشركين. وبدون النظر إلى الأحداث بهذا الميزان العقدي الثابت؛ فإن المواقف والأحكام سيصيبها الخلل والاضطراب، وستنحرف البوصلة بصاحبها ذات اليمين وذات الشمال، ولا يوفق إلى الحق في حكمه ونظرته.

فعلى سبيل المثال تلك الحروب التي يشنها الكفار من يهود ونصارى وباطنيين على المسلمين؛ وغزو لديارهم. فعندما تكون عقيدة الولاء والبراء حاضرة في قلوب المسلمين؛ فإنها ستكون حاضرة في هذا الصراع. حيث ينظر المسلم إلى هذه الصراعات وتلك الحروب أنها حروب عقدية دينية، يريد الأعداء منها طمس الإسلام في قلوب أهله، ونشر الكفر والفساد.

أما إذا لم تكن هذه العقيدة حاضرة في قلب المسلم؛ فإنه والحالة هذه سينخدع بما يرفعه الأعداء من مبررات لهذه الحروب، كادعائهم بأنها حرب اقتصادية، أو سياسية، أو قومية، أو لنشر الحرية والديمقراطية ودفاعا عن حقوق الإنسان.

وقد حسم القرآن الكريم حقيقية الصراع مع الكفار، وطبيعة الحروب معهم، ودوافعها، فقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة:59]، وقال تعالى عن حرق أصحاب الأخدود: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:8]، وقال الله عز وجل عن سحرة فرعون عندما آمنوا وهددهم فرعون بالقتل والصلب: ﴿قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف:125-126].

كما تأتي محورية عقيدة الولاء والبراء في النظر للأحداث والموقف منها؛ في ضبط قواعد الضرورة، والتيسير، والمدارات التي قد تفرضها أحوال الاستضعاف التي تمر بالمسلمين، بحيث لا يأتي من أهل الأهواء من يحول هذه الرخص إلى تنازلات عن المبادئ وتنازل عن الموالاة والمعاداة في الله. ويبرر بها المتابعة للكفار والانحياز إلى خندقهم.

القاعدة العاشرة: الافتقار إلى الله عز وجل وسؤاله الهداية للحق والثبات عليه

وهذه القاعدة محلها أن تكون أولى القواعد. فإن الهداية والتوفيق للحق والصواب هو بيد الله عز وجل، ولا يملك ذلك أحد من الخلق، حتى لو توفرت كل القواعد السابقة؛ فإنما هي أسباب في معرفة الحق يسهلها الله عز وجل لمن علم الله عز وجل صدقه في طلبه للحق فيهديه إليه. لذا وجب على العبد أن يلجأ إلى ربه ويسأله سبحانه وتعالى دائما؛ وفي أوقات الإجابة أن يهديه للحق؛ ويثبته عليه، فهذا خطيب الأنبياء شعيب عليه الصلاة والسلام يقول: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]، وهذا إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام:77]، ويخبر سبحانه عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ [الأعراف:155].

وأختم بما كان يدعو به خاتم المرسلين نبينا محمد ﷺ في استفتاحه لصلاة الليل حيث يقول: “اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”(8).

اللهم اهدنا وسددنا، اللهم إنا نسألك الهدى والسداد، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.. والحمد لله رب العالمين

الهوامش

(1) [موطأ مالك (3338) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (186)].

(2) [الفتاوى:13/20].

(3) [البخاري:5729].

(4) [إعلام الموقعين 1/ 69].

(5) [البخاري:3082].

(6) [مسلم:1333].

(7) [مسلم:2818، والبخاري:6464].

(8) [مسلم:770].

اقرأ أيضا

القواعد الشرعية للمسلم تجاه القضايا العامة .. خطورة الفتن وطُرق الهداية

النوازل الفقهية للمقاومة السنية

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (1-7) علوم ضرورية، العلم بالأسماء والصفات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (2-7) علوم ضرورية، العلم بالسنن الالهية

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (3-7) علوم ضرورية، فقه الموازنات والأولويات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (4-7) أثر الخلل في العلم بفقه الموازنات

أسباب اختلال فقه النوازل (1-4)

التعليقات غير متاحة