عندما يَضمُر جانب معايشة الآخرة والتذكير بها في مجال التربية والدعوة، ومع انفتاح الدنيا وإقبال شهواتها على المجتمع؛ يظهر وجوب التذكير بها وبيان أثر الإيمان بها.
مقدمة
لَمّا كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها..
ولِما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله عزو جل واجتناب نواهيه، ولِما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة الناس ومصيرهم.. فلا غرابة إذن أن يَرِد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته.
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتمّا غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته.
فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير. وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم، فماذا يبقى بعد ذلك..؟! ﴿قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ﴾ [الزمر: 15].
إنه لا يجهل أحد من المسلمين مشاهد اليوم الآخر وعظمة شأنه، ويكفي أن نتدبر كتاب الله عز وجل لنجد ذلك الاهتمام العظيم بذكر اليوم الآخر، وتقريره في كل موقع ومناسبة؛ فتارة يربط بينه وبين الإيمان بالله، وتارة يفصّل في ذكره تفصيلا، قلّما يوجد مثله في أمور الغيب الأخرى.
ولقد ورد ذكره في القرآن بأسماء كثيرة، ومن المعلوم أنه كلما كان للمسمى شأن عظيم كثرت أسماؤه.
أهمية الموضوع وشأنه
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي:
أولا: انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة.
ومع ما كان عليه صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الإيمان والتقوى، فقد كان يحذّرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة، ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها.
ثانيا: ركون كثير من الناس للدنيا. ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب، وتحجرت الأعين، وهُجِرَ كتاب الله عز وجل، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله..؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها.. والله المستعان.
ثالثا: لِما في تذكر ذلك اليوم ومَشاهدِه العظيمة من حثٍّ على العمل الصالح والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها؛ يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ [النور: 37]. ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].
رابعا: لِما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة، التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك البعدُ عن الله تعالى، وعن تذكر اليوم الآخر.
خامسا: لِما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء الناس بعضهم على بعض، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق. وكذلك النَيْل من الأعراض، والحسد والتباغض، والفرقة والاختلاف، وبخاصة بين بعض الدعاة وطلبة العلم. ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل علاجٌ لتلك الأمراض.
سادسا: ولَمّا كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو جحيم، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن واليأس رجاء ثواب الله عز وجل وما أعدَّه للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
سابعا: ولِما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة. ونرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله “إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ” أو “هذا مقال عاطفي وعظي”… إلخ
مع أن المتأمل لكتاب الله سبحانه وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة والثواب والعقاب.
نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير على نهجها.
خاتمة
المأخذ هو ما كان عليه رسول الله وصحبه. وقد كان يذكّر أصحابه بقوله «أرى الأمر أعجل من هذا» لما رأى من يُصلح دارا. لقد كانت حاضرة في حياتهم أكثر من الدنيا وكان عملهم متجها اليها؛ وبهذا فازوا.
ومَن بعدهم لن يفوز إلا بمنهجهم ومأخذهم؛ ولهذا نذكّر بأمر الآخرة وعِظم شأنها وأثر ذلك في القلوب والأعمال.
………………………..