يستعمل المؤمنون والعلماء الصادقون ما ورد من فقه وأحكام في صلح الحديبية ليضيفوا للمسلمين قوة. ويستخدم آخرون ليعارضوا به الشريعة. وبينهما فروق ولهما دلالات.
بين التنازلات والموازنات
ليس كل تنازل للأعداء مرفوضاً، وليست كل استجابة لمطالبهم أمراً منكَراً؛ والفقه في ذلك تحقيق أعلى المكاسب بأدنى التنازلات، والوصول إلى الخير المحبوب وإن مرّ ببوابة المبغَض المكروه، والموازنة بين المصالح والمفاسد.
والمتأمل في شروط الحديبية يرى فيها الغُبن والحيف ظاهريْن على المسلمين من الكافرين في إملاء الشروط؛ ألم يمنعوا المسلمين من كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: “لا نعرف إلا رحمان اليمامة، ولكن اكتب: باسمك اللهم”، فرفض المسلمون وأقرها النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم رفضوا كتابة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، وقالوا: “لو نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله”، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله».
وكانت هذه الاعتراضات منهم (حميّةً جاهلية) كما أخبر الله عنهم في كتابه، وإلا فقد تحققوا صدقه، صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا صحة رسالته بالبراهين التي رأوها وسمعوا بها (1زاد المعاد، 3/ 413)، حتى إذا وصلوا إلى شرط: “على ألا يأتيك منا رجلٌ وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً..؟ وفي تلك الأثناء قدِم “أبو جندل بن سهيل” يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال أبوه “سهيل”: “هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ”، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنّا لم نقض الكتاب بعدُ، فقال سهيل: إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: فأجِزْه لي! فرفض سهيل، ثم استصرخ أبو جندل “المسلمين” وحرّك عواطفهم قائلاً: يا معشر المسلمين! أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلماً، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عُذِّب في الله عذاباً شديداً.
فتأثر المسلمون، وكان عمر من أشدهم تأثراً حتى أتى النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى! فقلت: علامَ نعطي الدنية في ديننا إذاً، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه.
قال ابن القيم:
“ومن فوائد قصة الحديبية: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفعِ ما هو شرٌّ منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما”. (2زاد المعاد، 3/ 603)
وهكذا يكون الفقه في التنازلات تحقيق المصلحة الكبرى، وإن وقع مفسدة أقل. وما أحوجَنا إلى هذا الفقه..! وهو الذي قال عنه ابن القيم:
“وهذا من أدق المواضع وأصعبها، وأشقها على النفس”. (3زاد المعاد، 3/ 303)
نعم! إن رفض الآخر سهلٌ، والقطع بعدم التفهم والتعاون مع المخالفين لا يحتاج مزيد فقه، ولكن هل يحقق الخير المطلوب، وهل ينكأ العدو، وماذا يترتب عليه من المفاسد؟
تلك قضايا لا بد من إعادة النظر فيها في تعاملنا مع أعدائنا وتحقيق المكاسب لإسلامنا على هَدي السيرة النبوية.
أما رسول الله محمدٌ، صلى الله عليه وسلم؛ فقد استسهل ما استصعبه غيره من المسلمين، وكان ينظر بنور الله إلى ما وراءه من الفتح العظيم، وقد كان، فحصل له العزّ حين صدق وانكسر لله، وذلّ غيرُه وقُهِرَ حيث طغى واستكبر. (4زاد المعاد، 3/ 103)
اتهام النفس والرأي
كم نزكي أنفسنا والله يقول: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم: 32] وكم نصحح مواقفنا ونُخطِّئ غيرنا؛ وأحد الصحابة “سهل ابن حنيف” رضي الله عنه، يقول حين قدم من “صِفِّين”: «اتَّهِموا الرأي؛ فلقد رأيتُني يوم أبي جندل (الحديبية) ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمره لرددت، واللهُ ورسولُه أعلم». (5البخاري، كتاب المغازي، رقم: 8683)
إن حق المسلم أن يجتهد في رأيه، ولكن مع تقدير آراء الآخرين، وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده هو الحق، بل قد يكون الحقّ مع مخالفيه، ولذا ينبغي ألا يشتط المسلم على إخوانه المسلمين إن خالفوه الرأي، بل ينبغي أن يعود إلى نفسه ويتهمها، وليست القوة بالمعارضة أبداً، ولا يعني أن المسلم الموافق لغيره ضعيفٌ جبانٌ.
وفي تباين موقف الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في شروط الصلح ما يؤكد هذا؛ فعمر تأثر للشروط وعارض، وأبو بكر سلّم ورضي، وكان أقوى من غيره إيماناً وتسليماً؛ حتى قال ابن القيم:
“والصّدِّيق تلقَّاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه على قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله تعالى، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابِّه وأشدهم موافقة له”. (6زاد المعاد، 3/ 303)
أجل لقد انبلج الصبح، وأصبح الصلح فتحاً، والغبن في الظاهر نصراً مبيناً، وعاد عمر إلى نفسه يؤنبها حتى كان يصوم ويتصدق ليكفِّر عما سلف منه، وهل كانت منك إلا غيرة على الإسلام يا ابن الخطاب..؟ لكنه فهمِ ـ بعدُ ـ وفهِم غيره من الصحابة أن الغيرة ينبغي أن تكون في مكانها، وإن اتهام النفس وارد، وإن التنازل إذا حقق مكاسب عليا فهو السياسة الشرعية والسنة النبوية التي ينبغي أن تُقتفَى، بل لقد أكرم الله المؤمنين بالنصر العزيز والسكينة المطمئنة كما أخبر في سورة الفتح.
قال ابن القيم:
“وتأمل كيف وصف ـ سبحانه ـ النصر بأنه (عزيزٌ) في هذا الموطن، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشدّ القلق، في أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم”. (7زاد المعاد، 3/ 113)
استثمار الفرص وتحييد الأعداء
تحيُّن الفرصة المناسبة نجاح، والنجاح الأكبر استثمار الفرص المتاحة لمصلحة الإسلام والمسلمين. والمتأمل في سياق (قصة الحديبية) يرى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بارعٌ ومتفوق في استثمار الفرص، فلم يكن نجاحه في (شروط الحديبية) ليقف عند حدود (اعتراف) المشركين بالمسلمين كقوة كبرى تستحق أن يُفاوض معها، وتُهادن بعد أن كانت قريش تَغيرُ عليها متى شاءت، والعهد قريب بغزوة (الأحزاب)، بل تجاوزت نجاحات النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك إلى (تحييد) قريش في معترك الصراع القائم آنذاك، وكبّلت قريش نفسها بهذه (المعاهدة) فلا تفكرُ بحرب المسلمين على الأقل (عشر سنين) وكان هذا نجاحاً وعمقاً في سياسة محمد، صلى الله عليه وسلم؛ وربما خفي على بعض أصحابه.
والنجاح الأكبر والاستثمار الأعظم هو استثمار النبي، صلى الله عليه وسلم، لهذه الفرصة (الهدنة) وذاك (التحييد)؛ فثمة خصوم آخرون لا بد من الالتفات إليهم والخلاص منهم، وثمة فرصٌ للدعوة لدين الحق هذا أوانها وميدانها، وقد كان.
ففي الجانب الحربي غزا النبي، صلى الله عليه وسلم، (اليهود) في (خيبر) وأدّبهم، وغنم أموالهم وعقد الصلح معهم.
وفي الجانب السلمي تقدمت (الدعوة) خطواتٍ في أرض الحجاز وما حولها، ودخل في دين الله ـ زمن الهدنة ـ أضعاف ما دخل من قبل.
وعن هذه المكاسب الدعوية يقول الزهري، رحمه الله:
“فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله (صلح الحديبية) كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس؛ فلما كانت الهدنة ووُضعت الحرب، وآمن الناسُ بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر”. ا. هـ
قال ابن هشام:
“والدليل على قول الزهري أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ـ في قول جابر ـ ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف”. (8السيرة النبوية، لابن هشام 3/ 447، 844)
قال ابن القيم:
“ومن حِكم الصلح أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإن الناس أمِن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرةً آمنين، وظهر من كان مختفيا بالإسلام”. (9زاد المعاد، 3/ 309 – 310)
لقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قادراً على استثمار الفرص؛ وفي صلح الحديبية درس عظيم للمسلمين للحوار والدعوة واستثمار الفرص، وتحييد الأعداء وإسماع صوت الإسلام لمن يسمع.
المستضعفون الأقوياء
لا ينبغي لأحد أن يغترَّ بقوته، ولا ينبغي لمستضعف حيناً أن يظنَّ أن استضعافه إلى الأبد.
ففي قصة الحديبية استقوى الضعفاء، بل كانوا سبباً لتراجع قريشٍ عن شروطها، ولقد كان أبو بصير (عُتبة بن أسيد الثقفي) وأبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) و (الوليد بن الوليد بن المغيرة) نفراً من هؤلاء المستضعفين بمكة. (10السيرة من الفتح. 230)
فماذا كان من خبر قائدهم (أبي بصير)..؟
لقد فرَّ إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في المدينة بعد توقيع الصلح مع قريش، فأرسلت قريش في طلبه، وما كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، بدٌّ من إرجاعه وإن أبدى للنبي، صلى الله عليه وسلم، تخوُّفه من فتنة المشركين وعذابهم، واكتفى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالقول له: «اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعلٌ لك فرجاً ومخرجاً».
وخرج أبو بصير مع صاحبيه ليعود إلى مكة؛ فما جاوز المدينة بقليل ـ قيل: عند ذي الحليفة ـ حتى قَتَلَ أحد الرجلين، وفرّ الآخر هائماً على وجهه مستصرخاً بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فزِعاً؛ إلى حد أنه كان يعدو عاضّاً على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف ذَكَرِه، والحصا يطير من تحت قدميه من شدة عَدْوِه، وأبو بصير يتبعه. (11ابن عائذ في المغازي، انظر السيرة من الفتح: 822)
وحينها قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لأبي بصير: «ويلَ أمه! مِسْعَرُ حرب لو كان له أحد» ففهم أبو بصير هذه الرسالة، وانطلق إلى الساحل حتى نزل إلى (العيص) ـ على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام ـ ثم انضمّ إليه كل من فرّ من قريش من مستضعفي المسلمين بمكة، وشكّلوا هناك قوةً وخطراً على تجارة قريش، وهم خارج إطار الصلح حتى ضاقت قريش بهم، وطلبت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُلغي الشرط الخاص بمن قدِم إليه من المسلمين وأن يستقبل هؤلاء.
وهكذا تقوّى هؤلاء الضعفاء بصدقهم وتضحيتهم وصبرهم وجهادهم، حتى كتب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لهم بالقدوم عليه في المدينة؛ ففرحوا. ولكن قائد المجاهدين أبا بصير لم تكتمل فرحته ولم يُقَدَّر له أن يلتقي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، بعد أن خرج من المدينة؛ إذ جاءه كتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بصير يموت (كما تقول الرواية) فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل في مكانه، وقدم أصحابه الآخرون إلى المدينة. وكذلك يقوى الضعفاء، ويضعف الأقوياء، والله غالب على أمره.
قال الزهري:
“فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلَّم أبو جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خيرٌ مما كرهوا”. (12السيرة النبوية من الفتح: 230، 231، الإصابة: 6/ 573)
قال ابن القيم:
“وفي هذا من الفوائد جواز صُلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين، وأن لا يُرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردِّهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب”. (13زاد المعاد، 3/ 803)
خاتمة
وهذا الفقه في الموازنات يُقبَل ممن أسلم وجهه لله وأسلم حكمه وتحاكمه لشرع الله عز وجل؛ أما من رفض شريعة الله عزوجل وخان أمته ثم جاء يبحث في الشرع ما يغطي به تنازلاته وخياناته فإننا نقول له: أعلن توبتك من ردتك وادخل في الاسلام واخضع لأحكامه وستجد فيها الحل والمخرج.
وهنا ينبغي لاهل العلم أن يحذروا من مكر الطواغيت الذين يريدون خداعهم واستخدامهم في تمرير مشاريعهم الخيانية باسم الدين كاستدلالهم بفقه الموازنات والتنازلات في صلح الحديبة كما هو الحاصل اليوم في تمرير صفقة القرن وإقرار اليهود على احتلال مقدسات المسلمين.
……………………………
الهوامش:
- زاد المعاد، 3/ 413.
- زاد المعاد، 3/ 603.
- زاد المعاد، 3/ 303.
- زاد المعاد، 3/ 103.
- البخاري، كتاب المغازي، رقم: 8683.
- زاد المعاد، 3/ 303.
- زاد المعاد، 3/113.
- السيرة النبوية، لابن هشام 3/ 447، 844.
- زاد المعاد، 3/ 309 – 310.
- السيرة من الفتح. 230.
- ابن عائذ في المغازي، انظر السيرة من الفتح: 822.
- السيرة النبوية من الفتح: 230، 231، الإصابة: 6/ 573.
- زاد المعاد، 3/ 803.
المصدر:
- أ.د. سليمان بن حمد العودة، مجلة البيان، العدد: 206.