إن صلاح السرائر وفسادها أمر لا يعلمه على وجه القطع إلا علام الغيوب، ولكن الله عزوجل جعل العلامات لصلاح السريرة وفسادها، تظهر على العبد يعرفها من نفسه، وتكون للناس بمثابة القرائن التي تعكس لهم سرائر الغير ..
فضائل وثمرات السريرة الصالحة
للسريرة الصالحة ثمرات طيبة وعواقب حميدة، يغتبط ويسر بها صاحبها في الدنيا والآخرة ومن أهمها ما يلي:
محبة الله عز وجل ومعيته وولايته
يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار بأصابعه إلى صدره1(1) مسلم: (2564). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها…»2(2) البخاري: (6502). الحديث.
ومعلوم أن أول ما يدخل في الفرائض والنوافل فرائض القلب ونوافله. وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أحب العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأصفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا أولئك هم أئمة الهدى ومصابيح العلم»3(3) مستدرك الحاكم، وقال صحيح الإسناد: (5180)..
وإذا أحب الله عز وجل عبدا تواردت عليه أسباب التوفيق والتيسير والهناء في الدنيا والآخرة، وأثمرت له هذه المحبة ثمرات يانعة في دينه ودنياه وهي ما سيرد ذكره في الثمرات الآتية.
مضاعفة الحسنات، وغفران الذنوب
فالله عز وجل لا يتقبل إلا من المتقين، والمتقون هم الذين أصلحوا ظواهرهم وبواطنهم، فجاءت على ما يحبه الله ويرضاه. والعمل الصالح يكون له من الفضل والقبول عند الله عز وجل بقدر ما يقوم بقلب صاحبه من اليقين والمحبة والإخلاص والخوف والرجاء، وغيرها من أعمال القلوب والسرائر. قال الله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ [الحج: ۳۷]، وترى الرجلين يدخلان في عبادة من العبادات: كالصلاة والصيام والصدقة والحج والدعوة والجهاد، ويكون بينهما في الثواب والأجر کما بين السماء والأرض، وذلك حسب ما قام في قلبيهما من العبادات الباطنة.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال. وأكثر الناس يقصرون في الحسنات، حتى في نفس صلاتهم. فالسعيد منهم من يكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيرا. فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء، وبما يقبل من الجمعة شيء، وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر. وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة، باعتبار الموازنة.
والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به کبائر. كما في الترمذي وابن ماجة وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر. فيقال: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: لا ظلم عليك. فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات»، فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، کما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم، كما ترجح قول صاحب البطاقة)4(4) منهاج السنة: (6/ 218)..
وروی صاحب الحلية الحافظ أبو نعيم بسنده قال: (…قال سمعت عمي وهب بن منبه يقول: يا بني أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق الله فيها فعلك في العلانية، فإن من فعل خيرا ثم أسره إلى الله فقد أصاب موضعه وأبلغه قراره، وإن من أسر عملا صالحا لم يطلع عليه أحد إلا الله فقد اطلع عليه من هو حسبه، واستودعه حفيظا لا يضيع أجره، فلا تخافن على عمل صالح أسررته إلى الله عز وجل ضياعا، ولا تخافن من ظلمه ولا هضمه، ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها، إن نخر العرق هلكت الشجرة كلها ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشجرة في خير ما كان عرقها مستخفيا لا يرى منه شيء. كذلك الدين لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة، يصدق الله بها علانيته، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة کما ینفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإن العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل)5(5) حلية الأولياء: (4/ 70)..
إلقاء الله عز وجل المحبة والقبول لصالح السريرة بين الناس
فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلان فأحببه. فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض»6(6) البخاري: (3209)، ومسلم: (2637).، وهذه المحبة إنما نشأت من علم الله عز وجل بصلاح سريرة العبد وسلامة قلبه ومحبة الله عز وجل له.
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (إن للخلوة تأثیرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالا له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون: أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوی تقوی محبته، أو على مقدار زیادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود. فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لم. ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة، ثم ينسی. ومنهم من ذكر مئة سنة، ثم يخفی ذکره و قبره. ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبدا)7(7) صيد الخاطر: (170-171)..
ويقول في موطن آخر: (والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك.
ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب فوجدته السريرة، كما روي عن مالك: أنه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة. فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر)8(8) صيد الخاطر: ص207..
حسن الخاتمة
وهذا من أعظم ثمار السريرة الصالحة، وما أقض مضاجع السلف، وأزعج قلوبهم مثل الخاتمة، والخوف من سوئها. ولكن الله عز وجل برحمته ولطفه وعدله وحمده لا يختم لصاحب السريرة الصالحة بسوء أبدا، وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته، وباغته الموت قبل إصلاح الطوية، التي لا يعلمها إلا الله ، وفي ذلك يقول الإمام عبدالحق الإشبيلي رحمه الله تعالى: (واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا قط، ولا علم به والحمد لله، وإنما يكون ذلك لمن كان له فساد في العقد، وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، وربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، ويثب عليه قبل الإنابة، ويأخذه قبل إصلاح الطوية فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ثم العياذ بالله)9(9) العاقبة في ذكر الموت: (1/ 133)..
ويقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: (إن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد، لا يطلع عليها الناس: إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك، فتلك الخصلة توجب له سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة)10(10) جامع العلوم والحكم: (1/ 57)..
تفريج الكروب وتنفيس الشدائد
قال الله عز وجل بعد أن ذکر استجابته سبحانه وتعالى لأنبيائه ودعواتهم في تفريج الكروب: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
فمن كانت له سريرة صالحة في السراء والضراء نفس الله کربه، وفرج الله همه، ورزقه من حيث لا يحتسب، قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 3-2] وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]، ولقد نجى الله عز وجل أنبياءه من الكروب، التي نزلت بهم بصلاح سرائرهم وسلامة قلوبهم من الشرك والمعارضات، وامتلائها بالتوحيد والتقوى والصبر واليقين، كما حصل لنوح عليه السلام وقومه الموحدين بنجاتهم من الطوفان، ونجاة إبراهيم عليه السلام من النار، وفلق البحر لموسى عليه السلام وقومه، ونجاتهم من فرعون وقومه، ونجاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش، ومن كثير من الكروب والشدائد التي مرت به عليه الصلاة والسلام، ونجاة يوسف عليه السلام من ضيق الجب والسجن بصبره وتقواه: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90]، ونجاة أصحاب الغار الثلاثة وانفراج الصخرة عنهم، بفضل إخلاصهم وصلاح سرائرهم والأخبار في ذلك كثيرة.
الراحة والسكينة
الراحة ونزول الطمأنينة والسكينة في قلب من صلحت سريرته، وثباته أمام فتن الشبهات والشهوات وابتلاءات الخير والشر، وهداية الله عز وجل له إلى الحق والتوفيق إلى الصواب عندما تحتار العقول والأفهام.
قال الله عز وجل عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الغار: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40]. وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: 26].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (صاحبُ الرِّضا في راحة ولذة وسرور، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن الله تعالى بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهمَّ والحزن في السخط )11(11) مدارج السالكين (145/2)..
الهداية للحق والسداد في المواقف
صاحب السريرة الصالحة من أولياء الله عز وجل وأحبائه . ومن كان كذلك فالله عز وجل معه يسدده ويوفقه ويهديه للحق عند اختلاف الناس فيه، قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
ولا تظهر الحاجة إلى هذه الثمرة من ثمار السريرة الصالحة کما تظهر أيام النوازل والفتن، وذلك حينها تختلف الآراء والمواقف، ويلتبس الحق بالباطل، وتتعارض المصالح والمفاسد فيما بينها. فيوفق الله عز وجل صالحي السريرة من عباده لما اختلف فيه من الحق بإذنه سبحانه وتعالى .
الهوامش
(1) مسلم: (2564).
(2) البخاري: (6502).
(3) مستدرك الحاكم، وقال صحيح الإسناد: (5180).
(4) منهاج السنة: (6/ 218).
(5) حلية الأولياء: (4/ 70).
(6) البخاري: (3209)، ومسلم: (2637).
(7) صيد الخاطر: (170-171).
(8) صيد الخاطر: ص207.
(9) العاقبة في ذكر الموت: (1/ 133).
(10) جامع العلوم والحكم: (1/ 57).
(11) مدارج السالكين (145/2).
اقرأ أيضا
الإخلاص والصدق من علامات صلاح السريرة
العدل والإنصاف من علامات صلاح السريرة
صلاح السريرة .. الأسباب والوسائل