لرجل العقيدة دوره، وله شروط وأوصاف يمتاز بها عن التابعين لواقعهم بلا تمييز، وهو يرفع الناس الى أُفُق كريم، أما غيره فيقع في التأثر الاجتماعي بعادات حرمها الله تعالى وخسارة كبيرة وله ولغيره.

مقدمة

بعد بيان أثر وخطورة فتنة “مسايرة الواقع” تاريخيا، وفي الواقع المعاصر، ونتاج هذه الفتنة من الشخصيات المهترئة “الإمعة” وذلك في الجزء الأول يوضح الكاتب هنا معنى رجل العقيدة وأوصافه ودوره وحاجة الناس اليه، ويبرز من خلال ذلك أخص خصائصة وهو أن تكون العقيدة محل الروح منه والقلب، وان يرتفع فوق ما تواضع عليه الناس ثم يوضح بعض صور التأثر المعاصرة بهذه الفتنة.

وأما التأثر بعادت محرمة وتقاليد مخالفة لما أمر الله تعالى؛ فالثمن فادح والخسارة كبيرة.

رجل العقيدة وواقع الناس

إن أهل العلم والدعاة إلى الله، عز وجل، لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوّعه وتـسـلّط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ

مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.

إن الـدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله ـ تعالى ـ فإذا وقع منهم من وقع في “مسايرة الواقع” والرضا بالأمر الواقع؛ فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟

هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقّد نفسه ويحاسبها ويسـعـى لإنجــاء نفسه وأهله ـ بادئ ذي بدء ـ حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عنـدهـــم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألِفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.

إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجـتـمـعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرهـا إلى مـا هـو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فـهــــذه ـ والله ـ هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية؛ وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالِم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الـواقــع وأهواء الناس.

[للمزيد: فتنة مسايرة الواقع (1-4)]

قيمة الحياة لله

إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن فـي ذلـك مـشـقـة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله ـ تعالى ـ في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله عز وجل.

وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله ـ عز وجل ـ وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول:

“وأهـم شـيء فـي الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا ـ بكل أسف ـ من هذا النوع القوي والعبقـري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد.

ولا بد ـ للنجاح ـ من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضــــا بالـواقـــع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابةٍ لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومـراقـبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ ولا بد لنا من وصف عاجلٍ وتحديد مجمل لرجل العقيدة.

إن السلوك الأول الفطـري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعّالاً مؤثراً حياة المرء كلها.

وفي مجتمع كمجتمـعـنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله ـ مـع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ـ وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها؛ فهذا تبذير للأموال ووضعـهـا في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عنــد بعض الناس مــن الحلال والحرام وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». (1رواه الترمذي، ح/ 2338)

ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.

كثيرون أولئك الذين يعيـشــون مــن أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلـهـا، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.

وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يـتـجـاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة؛ فيعيشون لعقيدة ويمـضــون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم، سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه. (2في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 ـ 43 (باختصار))

من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقـيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غـيـر مـبــالٍ بسـخـط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرَّمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فـيــه ولا يتأثر.

هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة ـ والمشار إليها سابقاً ـ لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم.

أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مُقلٍّ ومُكْثر ـ وما أبرئ نفسي.

[للمزيد: الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء]

صور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم

فيما يلي ذكْر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة؛ فمن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:

مـسـايـرة الــواقع وما ألِفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية

وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ـ ومـــن ســنـوات عديدة ـ كثيرٌ من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة، بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس؛ فوافقت قلوباً خاويـــة من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع.

ومن أبرز هذه العادات والممارسات:

انتشار الخدم والخادمات بلا محارم

ما انتشر في بيوت كثير من الـمـسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعـاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخـضـــع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين الـســائقـيـن؛ حيث قـد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مـمـــا ملكت اليمين.

وكل هذا ـ ويا للأسف ـ بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ، وإذا نُصــح الولي في ذلك قال: “نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن الصعب مقاومة ضـغــــط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم!! ”

أدوات اللهو الجالبة للفساد

مــــا انتشر في بيوت كثير مـن المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكــذلـك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة.

حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضـاءاً للـناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.

قصور الأفراح ومنكراتها

مــا ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار “قصور الأفراح” والفنادق وما يحصل فـيـهـــــا من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرَّم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل… إلخ.

ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم.

تقليد لباس نساء الغرب

مـسايرة النساء فـي لـبـاسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصيحات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله، عز وجل، من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله، عز وجل، فوق رضا المخلوق.

أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليّها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعـقــل وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول ـ والعياذ بالله تعالى ـ إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.

عبوديةٌ .. من يقف وراءها؟

وعن هــــــذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال، رحمه الله تعالى:

“هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفـسهم منها مفراً.

هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً مـــــا لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلـك لا يمـلـكــــون إلا الخضوع لها:

أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف .. إلى آخر هذا الاسترقــاق الـمــذلّ: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟

تقف وراءه بيوتُ الأزياء، وتقف وراءه شــركــات الإنتاج!

ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها!

ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!”. (3في ظلال القرآن، 2/ 1219)

التبذير والاستدانة في المآكل والمساكن والمراكب

مـسـايـرة الـنـــاس فيما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بــل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يُـرهــــــق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان.

والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.

خاتمة

تلك بعض المظاهر التي يجب التنبه لها والشعور بالخطر تجاه التأثر بها، وإلا كانت دلالة على التراجع وليس التقدم نحو تحقيق التغيير المطلوب. والله تعالى العاصم والموفق

……………………………………………

هوامش:

  1. رواه الترمذي، ح/ 2338.
  2. في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 ـ 43 (باختصار).
  3. في ظلال القرآن، 2/ 1219.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة