لِفتنة “مسايرة الواقع” آثار وخيمة على الدين والدنيا، وعلى الشخصية الاسلامية، وعلى الدعوة واتجاهها وثقة الناس في الدعاة. وللنجاة من هذه الفتنة طرق ينبغي سلوكها.

مقدمة

بعد بيان أثر وخطورة فتنة “مسايرة الواقع” تاريخيا، وفي الواقع المعاصر، ونتاج هذه الفتنة من الشخصيات المهترئة “الإمعة” وذلك في الجزء الأول

ثم بيان دور رجل العقيدة وإصلاحه للمجتمع وعدم تأثره بسلبياته، ونزول قضيته منزلة الروح من الجسد الجزء الثاني

ثم بيان مجالات التأثر بهذه الفتنة في الاستفتاء المغرِض القصد، والاستخذاء أمام الأنظمة العلمانية أو الغرب بفجوره وأفكاره الجزء الثالث

يوضح هنا الآثار المترتبة على هذه الفتنة في مجالات الدين الدنيا ومصداقية الدعاة، ثم بيان كيفية النجاة منها وما يعين على الثبات في شأنها.

 الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها

إن لمسايرة الواقع وما ألِفـه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على “المُسايِر” في دينه ودنياه ما لو انتبه لـهـــــا الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنَب غيره.

ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:

الآثار الدنيوية

وذلك بـمـــا يـظـهـر على “المُسايِر” من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جـســده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة.

بخلاف المستسلم لشرع الله، عز وجل، الرافض لما سواه، المنجذِب إلى الآخرة؛ فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر: ماذا يُرضِي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.

الآثار الدينية

وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن “المُسايِر” لواقع الناس المخالف لشرع الله، عز وجل، يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيـمــان حبة خردل.

كما أن “المُسايِر” لركب المخالفين لأمر الله، عز وجل، لا تقف به الحال عند حــد مـعـيـن مــن المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تـســايـر فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يُظلم القلب ويصيبه الران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها.

وفي ذلك يـقـول شـيـخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحـسـنــة الـثـانـيــة قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى: ﴿ولَوْ أَنَّهُمْ فَـعَـلُــوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * ولَـهَـدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ (النساء:66 – 68)

وقال تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ (العنكبوت: 69) وقال تعالى: ﴿والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ * ويُدْخِلُهُمُ الجـَنَّــةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ (محمد: 4 – 6)، وقـال تـعـالـى: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى﴾ (الروم: 10).

وقـال تـعـالـى: ﴿كِـتَـابٌ مُّـبـِيـنٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ (المائدة: 15، 16)، وقــال تـعـالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَـنُـوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِـنُــوا بِـرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ (الحديد: 28)، وقال تـعــالى: ﴿وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (الأعراف: 154). (1الفتاوى، 14/ 245)

ومـا أجمل مــا قـالـه سيد قطب، رحمه الله تعالى، في النقل السابق حيث قال:

“ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ـ ولو يسيراً ـ لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء”.

الآثار الدعوية

إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايـرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخـســر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالَب بتغيير الواقع وتسييره؟!

وكلـمـا كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

سبل الثبات، والنجاة من هذه الفتنة

للنجاة أو الوقاية من هذه الفتنة يجب أن ندرك أنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله، عز وجل، وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: ﴿ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 74) فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله، عز وجل، وصدْق العزيـمـــة، والأخذ بأسباب الثبات؛ فمن أسباب الثبات:

فعل الطاعات وامتثال الأوامـر واجـتـنــاب النواهي

كما قال عز وجل: ﴿ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ (النساء: 66) فـذكـر ـ سبحانه ـ في هذه الآيــة أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعَظ به من فعل الأوامر وتـرك الـنـواهــي.

ويشير الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: “فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفـعـــل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً كان أعظــم تثبيتاً قال تعالى: ﴿ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾  فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق”. (2بدائع التفسير، 1/ 17.نقلاً عن موقع العصرانيون)

مصاحبة الصادقين

وذلك بمصاحبة الدعاة الصادقـيـن الـرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله، تعالى، وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل نـاعـق، وتـرك مـخـالـطـتـهـم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.

التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل

لأن “المُسايِرة” عند بعض الناس تنبع مـن جـهـلٍ بالشريعة وأحكامِها ومقاصدها، مع أن أكثر “المسايرين” المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.

والمقصود أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى.

وينـبـغـي على طالب العلم الشرعي والمستفتِي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجـمـعــون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمّس الرخص والآراء الشاذة لهم.

المناصحة

إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسـلـمـين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن السكوت على المخالَفات وضعْف المناصحة بين المسلمين من أســبـاب الـتـلـبـس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.

خاتمة

عندما حذرنا الله تعالى من “المادهنة” في الحق وحرمها على المسلمين وعلى أصحاب الدعوات خصوصا؛ فلما وراءها من مصائب وإخفاقات ومفاسد كبيرة أقلها الذوبان في الباطل واستعلاء أهله وضياع الحق في خضم الأحداث.

والحق لن يضيع؛ ولكن سيضيع من يفرط فيه ثم يستبدل الله تعالى بهم قوما لا يكونوا أمثالهم في المداهنة ولا التراجع.

……………………………………………….

هوامش:

  1. الفتاوى، 14/ 245.
  2. بدائع التفسير، 1/ 17.نقلاً عن موقع العصرانيون.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة