عندما أكرم الله أهل المدينة بأن فتح قلوبهم للإيمان آمن بالدعوة نفر منهم فازوا بقصب السبق على من سواهم من قومهم، وكان المؤمنون من كل فخذ من أفخاذ قبيلتي الأنصار؛ الأوس والخزرج، يجاهدون جهاد الأبطال في الدعوة الى الإسلام بين ذويهم، وكان بنو خطمة من أكبر أفخاذ الأوس، أسلم منها رجلان، أسبقهم إسلاماً عمير بن عدي ثم تبعه خزيمة بن ثابت، وأخذ هذان الصحابيان الجليلان على عاتقهما دعوة بني خطمة الى الإسلام.
ذو الشهادتين!
كان خزيمة بن ثابت مبصراً، أما عمير بن عدي فقد كان كفيف البصر، وكان لكلا الرجلين جهاده في الدعوة الى الله، وعلى الرغم مما ابتلي به عمير من كف البصر إلا أن هذا الابتلاء لم يمنعه عن القيام بواجبه نحو دينه. . وكان مما قام به في سبيل الله عملية فدائية نالت رضى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وإعجاب أصحابه رضوان الله عليهم.
أما أخوه في الدم والعقيدة خزيمة بن ثابت فقد حاز لقباً جليلاً فدعي بذي الشهادتين وذلك لأن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جعل شهادته بشهادة رجلين اثنين، أما كيف كان ذلك، فهذا تفصيل له:
ابتاع رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فرساً من أعرابي، ولما ذهب ليعطيه ثمنه كان ناس قد ساوموه عليه فزادوا على سوم رسول الله – عليه السلام -، فلما جاء الرسول الأعرابي، قال الأعرابي: إذا كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.
فقال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألست ابتعته منك؟
قال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه!
فقال – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل قد ابتعتُه منك.
فاجتمع الناس على رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وعلى الأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بعتك!
فقال المسلمون للأعرابي: ويحك، أن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يكن ليقول إلا حقا.
وبقي الناس في أخذ ورد مع البدوي حتى جاء خزيمة بن ثابت واستمع إلى تراجع رسول الله والأعرابي، والأعرابي يقول لرسول الله: هلم شهيداً أني بايعتك.
فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته يا رسول الله، صلى الله عليك.
فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خزيمة. بم تشهد ولم تكن معنا؟
قال خزيمة: يا رسول الله، أنا أصدقك بخبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟
وعندئذ جعل رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شهادته بشهادة رجلين، ودُعي من يومئذ بذي الشهادتين.
تحطيم أصنام بني خطمة
لم يستطع عمير بن عدي وخزيمة بن ثابت الخطميان أن يصبرا على رؤية قومهما وهم يسجدون للأصنام، فأخذا يغيران عليها سراً ويحطمانها لعل بصائر القوم تتفتح على الحقيقة، ولعلهم حين يدركون أن هذه الأصنام لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضراً فضلاً عن أن تدفع عن غيرها كما يظنون تنجاب عن أعينهم الغشاوة فيهتدون للنور الذي ما زالوا عنه معرضين. . .
ولكن قومهم تمادوا في غيهم، وأصروا على ضلالهم، وتمسكوا بأصنامهم، بل إن الاعتداء على الأصنام لم يزدهم إلا إعراضاً عن الإسلام، فكان هذا الحال الذي أصر عليه بنو خطمة يحزن عميرً وخزيمة اللذين كانا يحبان لقومهما الخير ويسعيان في تقريبهم منه..
وتمادى بنو خطمة في عدائهم لله ورسوله، وظهر فيهم رجال ونساء جاهروا بهذا العداء وذهبوا فيه كل مذهب. . .
معركة بدر تخرج أضغان المشركين
كانت معركة بدر حافزاً للمشركين ليكشفوا عن مشاعرهم ويخرجوا أضغانهم، فعندما وردت الأنباء بالنصر المبين لجبهة المسلمين نزلت بالمشركين النوازل، فباحوا بما في صدورهم من غل وحقد على الإسلام ونبيه وأتباعه، وراحوا يسخرون من انتصار المسلمين وأخذوا يهزؤون ببطولاتهم.
وكان من أكثر الناس ضيقاً بهذا النصر الإلهي في بدر قوم عمير بن عدي بنو خطمة، وكان من أشد بني خطمة ضيقاً بهذا النصر امرأة رجل منهم يقال لها عصماء بنت مروان، فقد جاهرت في العداء، ولجت بالخصومة، وبالغت بالكيد للإسلام وأهله، وكان أخطر أسلحتها هذه الأشعار التي تنظمها في ذم المسلمين والتحريض عليهم، وكان الشعر في ذلك العهد من أخطر الأسلحة التي يشهرها الناس في وجوه خصومهم، وكانت هذه المرأة تنفث أشعارها فتثير الناس على المسلمين، وكان مما قالته في رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أطلعتم أتاوي من غيركم … فلا من كراد ولا ملحج
ترجونه بعد قتل الرؤوس … كما يرتجى مرق المنضج
ألا أنف يبتغي غرة … فيقطع من أمل المُرْتجى
ولما سمع عمير بن عدي هذا الشعر الذي تعرض فيه عصماء برسول الله وتحرض على قتله، أثاره أن يكون هذا التعريض وذلك التحريض من قومه، فقرر بينه وبين نفسه أن يخلص المسلمين من مشركة بني خطمة، وقال لنفسه: لئن رد الله ورسوله سالماً من بدر لأقتلنها.
وعندما عاد رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من بدر، وسمع شعر عصماء، خشي مغبته على المسلمين، فالتفت إلى أصحابه وقال لهم: ألا آخذ لي من ابنة مروان؟
وزادت كلمات رسول الله عزم عدي على قتلها، وصمم على المبادرة بذلك حتى لا يزداد أذاها للمسلمين، وحتى لا تنتشر أشعارها فتقوي من عزم المشركين. . .
عمير يقتل عصماء
كان عمير كفيف البصر. . . ولكنه كان نافذ البصيرة، رتب أموره جيداً، فأتى بيت عصماء وقد هجع قومها وناموا، فدنا من البيت فإذا هي نائمة في الفناء وحولها بنوها، وكانوا ذوي عدد، فتحسسهم حتى عرفها من بينهم، فأغمد فيها سيفه حتى أنفذه من ظهرها، وخرج مسرعاً قبل أن يتنبه إليه بنوها فيلحقوا به. . .
وأفاق أبناء عصماء فوجدوا أمهم سابحة في دمائها، فاضطربوا لهذا الذي رأوه، وساد البيت الهرج والمرج، ووصل الخبر إلى كل بيت من بيوت خطمة، فاجتمعوا حول بيتها، وكلهم يسأل: من قتل عصماء؟ وتسابق الجميع في إطلاق التهديد والوعيد، وتمنوا لو عرفوا قاتلها حتى يثأروا منه ويلحقوه بها.
نصرت الله ورسوله يا عمير
لم يغمض لعمير جفن بعد تنفيذه لعمليته الفدائية، فقد قتل امرأة عزيزة الجانب يحيط بها عدد من الأبناء الشجعان، كما يغضب لها قومها من بني خطمة وهم ذوو عَدَد وعُدة وذوو شجاعة ونجدة، وبقي ساهرا حتى ارتفع صوت بلال بالنداء للصلاة، فخف إلى مسجد الرسول ليبلغه ويبشره بالخلاص من مشركة بني خطمة التي كانت تؤلب على الإسلام ونبيه.
وأدى عمير صلاة الصبح خلف سيد المرسلين، وعندما سلم الرسول من الصلاة، التفت إلى عمير وفاجأه بقوله: أقتلت ابنة مروان؟
قال عمير: نعم يا رسول الله.
قال – عليه السلام -: نصرت الله ورسوله يا عمير.
لا ينتطح فيها عنزان
اطمأن عمير على رضا رسول الله لما فعل، وأحب أن يعرف صدى ونتائج قتل هذه المرأة الضالة، فالتفت إلى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال: هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟
فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا ينتطح فيها عنزان1(1) لا ينتطح فيها عنزان: أي أن شأن قتلها هين لا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف..
كان عمير يظن أن عصماء هذه ذات منعة وقوة في بنيها وقومها، وإنهم لا بد ثائرون بقاتلها، ولم يكن يتصور أن قلوبهم هواء، وأنهم سوف يجبنون هذا الجبن الذي يخزي ويذل، ولكنه الإسلام الذي ينزل الرعب بأفئدة من عاداه وينزل السكينة على قلوب من والاه، وأدرك عمير أن أمر عصماء بنت مروان تافه، ولن يكون له عواقب، فقد كان تعبير رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن ذلك من جوامع الكلم التي اختص بها – عليه السلام -. . . نعم لا ينتطح في أمر هذه المرأة المشركة عنزان!
البصير. . ناصر الرسول
تحلق المهاجرون والأنصار حول عمير بن عدي وكلهم يسأله: كيف قتلت عدوة الله؟ وعمير يشرح لهم كيف تمكن منها حتى خلص المسلمين من شرها.
والتفت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى أصحابه وقال لهم: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي.
وعندئذ شاع في الحاضرين جو من البهجة والسرور، فقد غدا أخوهم ناصر الله وناصر رسوله، وهذا شرف يتمنى كل منهم لو سمع رسول الله يصفه به، بل إن كثيرا من الصحابة تمنى لو تتاح له فرصة كالتي أتيحت لعمير حتى يكتسب شرفاً كهذا الذي فاز به عمير، وحتى يحصل على وسام من هذه الأوسمة التي يزين بها أبطال الإسلام تاريخهم ويخلدون بها أسماءهم. . إن أوسمة الرسول هي تلك الألقاب التي يطلقها على أصحابه كلما امتاز أحدهم بعمل يؤهله لها.
وحاز عمير على إعجاب الصحابة مهاجريهم وأنصارهم، وكان من أشد الصحابة إعجابا بعمير وعمله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا الأعمى الذي تشرى -أي باع نفسه- في طاعة الله تعالى.
فنظر الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمر وقال له: لا تقل الأعمى. . ولكنه البصير.
فكيدوني جميعاً
ملأ قلب عمير شعور بالأمان، ألم يقل له رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى: لا ينتطح فيها عنزان؟ لذا فقد خرج من مسجد رسول الله وتوجه إلى منازل بني خطمة حيث يتجمع الخطميون للتشاور في أمر ابنة مروان، إنهم يعلمون أن قاتلها منهم، فما كان لرجل من غيرهم أن يدخل عليهم ليلا دون أن يحس به أحد، إذن فالقاتل لا بد أن يكون واحدا من اثنين، عمير بن عدي وخزيمة بن ثابت، فهما اللذان خالفا بني خطمة ودخلا في دين محمد. . .
وعندما طلع عليهم عمير بن عدي نظروا إليه بعيون الريبة وقالوا له: أنت قتلتها يا عمير؟
والتفت إليهم عمير باستخفاف وقال لهم بعزة وتحد: نعم أنا قتلتها، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون. وبُهت الذين كفروا، وداخلهم الرعب، فلم ينبسوا ببنت شفة.
عندئذ قال لهم عمير: يا بني خطمة، والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم.
وران الصمت على المكان. . ولم يجرؤ أحد أن يرد على عمير قوله. . .
وانصرف عمير إلى إخوانه من المسلمين، أما بنو خطمة فقد انصرفوا إلى قتيلتهم فحملوها إلى حيث أهالوا عليها التراب.
شاعر الرسول يمدح عميراً
وطار حديث عمير وبطولته في الآفاق، وأصبح قتله لعدوة الإسلام حديث المجالس في المدينة، وغدا موقف بنيها وقومها مثار السخرية والهزء، وكان لحديث عمير مع عصماء في شعر حسان نصيب، فقال يتندر بأعداء الله ويمدح عميراً2(2) مغازي الوافدي، الجزء الأول ص 174، نشر: عالم الكتب، بيروت.:
بنو وائل وبنو واقف وخطمة دون بني الخزرج
متى ما دعت أختكم ويحها بصولتها والمنايا تجي
فهزت فتى ماجداً عرقه كريم المداخل والمخرج
فضرجها من نجيع الدما قبيل الصباح ولم يحرج3(3) ضرجها: لطخها، والنجيع من الدم: ما كان الى السواد، أو دم الجوف.
فأوردك الله برد الجنان جذلان في نعمة المولج
دخول النور إلى قلوب بني خطمة
لما رأى المترددون من بني خطمة عز الإسلام ومنعته، كفوا عن ترددهم، ودخلوا في دين الله، فأي بركة كانت لهذا البصير. . لقد خلص الإسلام من عدوة حاقدة، وهدى بقتلها إلى الإسلام جمعاً من قومه. . . وفشا الإسلام في بني خطمة حتى أصبح المسلمون إغلبهم، وحتى غدا المشركون منهم يتسترون بالنفاق!
قارىء بني خطمة وإمامهم
كان عمير حريصاً على حفظ القرآن، ندي الصوت بتلاوته، وكان قومه يحبون الاستماع إليه، فغدا قارئهم الذي يحفظون عنه آيات الكتاب الكريم، وجعله رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إمامهم للصلاة، يؤمهم في مسجدهم الذي أقاموه في حيهم.
مرض عمير ووفاته
مرض عمير على عهد رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واشتد عليه المرض، فقال رسول الله لأصحابه: انطلقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده.
ونهض الصحابة مع رسول الله – عليه السلام – ودخلوا على عمير، فسر برسول الله وبهم، وارتاح فؤاده للعيادة الكريمة واطمأنت نفسه، فعيادة رسول الله له في بيته دليل على رضاه عنه. . .
وانتقلت روح عمير بن عدي البصير. ناصر الله وناصر رسوله إلى بارئها راضية مرضية، وبقي ذكر عمير بين الصحابة فوّاحاً العبير، واستمرت سيرته عبر القرون تنبينا عن رجل صدق الله إيمانه فرضي عنه وأرضى عنه المسلمين جميعاً.
بسم الله الرحمن الرحيم
(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:91-92].
الهوامش
(1) لا ينتطح فيها عنزان: أي أن شأن قتلها هين لا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف.
(2) مغازي الوافدي، الجزء الأول ص 174، نشر: عالم الكتب، بيروت.
(3) ضرجها: لطخها، والنجيع من الدم: ما كان الى السواد، أو دم الجوف.
المصدر
كتاب: “فدائيون من عصر الرسول” أحمد الجدع، ص151-162.
اقرأ أيضا
أبو موسى الأشعري المؤمن المنيب والفقيه الوالي
إنجازات عمر بن الخطاب الحضارية .. من القضاء الى الدواوين