تغرق اليوم أجيال بالملايين في وسائل التواصل، ووسائل الإعلام، بسيل لا ينتهي من المقاطع المصورة والفيديو والأغاني والقصص والكلمات والمواقف تهتف بهم للسقوط؛ بينما للإسلام منهج واقعي فطري يلبي الأشواق.

مقدمة

آلاف من مقاطع الفيديو التمثيلية أو مقتطعة، ومئات من الإنتاج اليومي الآلي، في الغرب والشرق، وفي مراكز التأثير الثقافي في تركيا ومصر وغيرها، كلها موجهة الى معالجة منحرفة لمشاعر الإنسان، ومشاعر الجنسين خصوصا. فيما تبدو حربا على الفطرة. ولنا هنا كلمة.

طبيعة وفطرة

للنفس البشرية طبيعتها. للرجل والمرأة. تلتقط النفوس، وتقع العين، وتسرح المشاعر، ويتمنى الخيال.. يتعلق القلب، تكف نفس أو تتفاعل. تتقدم تارة وتكف أخرى، تُكرر الانفعالات، وهكذا.. وتحكمها التقوى أو الفجور.

تلك طبيعة خلق الله عليها الرجل والمرأة. تدرك هنا قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، ولا فتنة أضر على النساء من الرجال».

ليست هذه المشاعر، ولا تلك الطبيعة، مستقذَرة ولا مستنجَسة؛ إنما هي بحسب قضائها.

تكليف رباني يحدد الطريق

حينما يقول الله تعالى ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..﴾ [النور: 32].. وهو أمر لأولياء ومسوؤلي المجتمع أن يزوّوجوا من لا زوجة له، ويزوجوا من لا زوج لها؛ فيقوم أولياء المجتمع من آباء وأمهات ومن أولياء أمرٍ عامة أن يقصدوا لتزويج من هو “أيّم”، أي بلا زواج.

حينما يُسمع هذا الخطاب اليوم يتصور الشباب؛ إنتاج التوجيه الثقافي العلماني والغربي، ونتاج توجيه ثقافات الأفلام الشرقية، ونتاج ثقافات الروايات الأدبية المنحرفة والجاهلية على كثرتها وتنوعها.. يظن هؤلاء الشباب أن هذه الآية وهذا الحكم هو إمضاء عقد يمنع تلك المشاعر ويكتب نهاية لها..! وهو تصور مريض ومكذوب.

والحق؛ إن هذه المشاعر الآنف ذكرها، وتلك الطاقات، يوجّه الله لها بالحياة، ويأمر أن تعيش وتنمو وتُنمَّى..

إن الله تعالى يأمر لها بالأوعية النظيفة والبيئة النظيفة لكي تعيش فيها تلك المشاعر وتنمو وتُنمَّى وتُقضى بأقصى طاقاتها؛ فيكون فيها ما تسرح فيه النفوس وتنشغل به القلوب، وتتبادله الكلمات، وتُبث فيه الشكوى والنجوى، ويؤتمن فيه على الأسرار، وتعبّر فيه النفس البشرية بمختلف طرقها التي فُطرت عليها وحُببت اليها، وبأقصى طاقات الإندفاع من غريزة وقضاء وطر، ثم يُكملان آثارها، والحياة بعدها؛ كما كان يفعل رسول الله وعائشة وهما يتقاسمان المياه للإغتسال فيلاطفها «دَعي لي»، وتلاطفُه «دَع لي» ـ اتركي لي ماء لا تستعمليه كله لأغتسل، وهي تطلب منه الشيء نفسه لا تستهلك الماء جميعا وأبق لي ما يكفيني ـ ولا تنتهي بينهما مودة ولا مشاعر؛ فيضع “فاه” مكان “فيها” ليشرب من مكانها في الإناء تعبيرا عن مشاعره ومحبته.

ثم يُكملان الحياة يتقدمان فيستأنفان تقاسم الفكرة، وتطوير البيت، وتنمية نفوسهما علميا وقيميا، فيتذاكران ويتناضحان الماء ليلا للقيام بالعبادة والتذكير بالأوراد، ومتابعة الفرائض، والكف عن المحارم، والغضب لله والتذكير بحدوده.

ثم قد يشتبكان فيما تشتبك فيه النفوس والحياة فيختلفان ويتخاصمان أو يتهاجران، فيكون بينهما ضوابط القانون والمنهج الرباني الذي به التقيا وبه عاشا.. فبينهما مودة، وللشقاق حدود، وللخلاف آداب؛ فيحفظانهما؛ فيثبت أحدهما للآخر موَدته التي ظهرت في الخصام وثبتت في الشقاق!! إذ لم يسقط أي منهما الحواجز ولا خطوط الموَدة؛ فتزداد المحبة ويزداد التقدير، ويعودان أفضل وأكمل وأكثر التحاما من ذي قبل.. حتى إذا كان يوم القيامة دعا الله الزوجة بالنسبة لزوجها باسم “الصاحبة”؛ فقال ﴿وصاحبته..﴾.. وللّفظ دلالته.

ومع المشاعر ودفقاتها ولغاتها العديدة؛ هناك مطلوب من أجل دفقة جديدة للحياة، وهو الذرية ذكرا كان أو أنثى، يريان فيها أثر حبهما ونتاج مشاعرهما وحكمة ربهما تعالى في التأليف والمودة بينهما حتى يكون جاني الثمرة هي هذه الذرية، ويجنيان هما أجرهما في الجنة..

ذرية يضعان فيها عقائدهما وأخلاقهما ومبادءَهما، يرسمان الذرية كما يرسمان اللوحة، يعدّلان، يدقّقان، يتابعان، يُكْملان، يُصحّحان، يهتفان بربهما؛ يدعوان بلفهة طلبا لصلاحها؛ حتى تكون الذرية امتدادا للأخلاق والعقيدة نفسها.. طامحَيْن الى الجنة. ثم يغادران الحياة وقد أبقيا فيها ذرية طيبة، صالحة أو مُصلحة، تمثل الخير ويتمثل فيها.

في كل هذا كانا يعبدان الله وهما يقضيان جميع المشاعر الآنف ذكرها..

من هنا يهتف منهج الله بالبشرية ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..﴾ [النور: 32].

لم يجد أحد من الصالحين كبتا لمشاعره ولا تعطيلا لغرائزه، ولم يجد أحدهم نفسه محتاجا ليسرق لذة محرمة أو يتبجح بفعل محرم على كورنيش أو شاطيء أو متنزه أو جامعة أو مكان خُفية محرم. بل كان يقضي مشاعره وترتاح أعصابه ويستمتع بما أنعم الله عليه، متعبدا بذلك، مبتعدا به عن الحرام فيؤجر. عندئذ تتزن نفسه ويجد أن كل المشاعر والطاقات أخذت حجمها؛ فينطلق لإصلاح نفسه واستكمالها واستكمال الحياة والمجتمع؛ فيطلب العلم ويستكمل العبادة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ دوره في الحياة العامة، ويجاهد في سبيل الله ويتقدم للتضحية، طالبا ما هو خير وأبقى..! وفي كل هذا يعود الى كِنّه وسكنه.

[للمزيد: حماة الفضيلة وحلف الرذيلة (2-3) علاقة الفضائل بالعقيدة]

هتاف السقوط

في المقابل ثمة هتاف آخر، هو المنتشر اليوم ويغطي الكرة الأرضية الآن؛ يتبناه الفن بأشكاله، والأشعار، والقصص بأنواعها والأفلام والمسلسلات ومقاطع الفيديو  وغيرها.. كلها تقول إن بداية الزواج هي نهاية هذه المشاعر، وإنما جمال مذاقها حينما تكون انحرافا عن الزواج، أو ما قبل الزواج أو بديلا عن الزواج..! أي في كل ما هو مسروق ومُغضِب لرب العالمين، وأن من أراد أن يكف عن حب امرأة فليتزوجها؛ وإلا بقي يحبها..! كما يقول فلاسفة الروس الشيوعيون، وكما تقول الجاهلية الضاربة بأرجائها اليوم والغارقة فيها نفوسنا وبيوتنا وتصورات شبابنا..!

انحراف كبير في المشاعر أن اللذة في المحرم، وانحراف للفطرة أن تحلم الفتاة بأن تكون رقما في قائمة شاب “شقي” “عفريت” ـ بحسب مصطلحاتهم الشائعة المريضة ـ يعطيها دورا في قائمة فسقه وفُجره، وأن يبحث فاجر عن جديدة في سلسلة فجوره..!

نفس الطاقة البشرية يراد لها أن تكون عارية ومبذولة في الطرقات، ولكل أحد، وبطريقة عابرة بلا احترام ولا قيمة، تجرِبة إثر تجرِبة، يتذوق شيئا ثم يرميه، وتتبعه أغانٍ وأحزان، وبكاء وأطلال، وصراخ وعويل.. ثم تأتي تجرِبة جديدة بأحلام نجسة وأماني قذرة، ثم تأخذ طريقها بين إخفاق وإخفاق.. ثم تتحطم النفس البشرية بين أحزان تتراكم، وهموم تتلاحق، وفراغٍ موحش، وشذوذ مُقرف، ثم فقدان معنى الحياة نفسها.. ثم يكون الإنزواء والذبول بالكبَر وتقدم السن وعليه علامات الإخفاق والانقطاع عن الله وحمل آلام كثيرة تسبب بها لنفسه ولغيره، وإهانات تحمَّلَها وحملَّها لغيره، فيكون عبرة.. أو بالانتحار والانقطاع المبكر عن الحياة.

وترى كبار السن من هؤلاء تبدو عليهم ملامح المعصية وآثار الإخفاق وانطباع النجاسات على حياته وقسماته، بل وتجد أثر التفاهات التي انشغل بها طويلا، بادية في عقله وفي حديثه وفي اهتماماته.

لقد أشار الرسول، صلى الله عليه وسلم، الى النهاية المرادة من خلف الفجور بصراحة تامة وتحذير واضح، بينما يتستر الفجار والشياطين ببعض الستر لاستكمال جر البشرية للهاوية. فأخبر عليه الصلاة والسلام عن حالٍ في الناس، يراد لهم فيقول: «لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير». (1البزار، برقم6/ 345 ، صحيح. والألباني في الصحيحة (481) صحيح)، فتكون المعاشرة في حالة بهيمية حيوانية كالحُمر في الطرقات..!

[حُماة الفضيلة .. وحِلف الرذيلة (3-3) الانتكاس وخطة المجرمين]

رعاة الخنازير!

الأدب والفن والثقافة الغربية، والثقافة التابعة لها النخبة الساقطة القذرة في بلادنا، ترى هذا اليوم حضارة وإنجازا يستحق الدفاع عنه من ضمن “الحريات”. وهي مهمة غريبة؛ فالحق أنه إفلاس قيمي وحضاري يجعل صاحبه كفاشل في كل عمل، فذهب يحرث روث الخنازير، فلما كان محل النجاسات وقاذروات الحيوانات وشهواتها العفنة وعقائدها المنحرفة، مجَّد عمله وأعطاه دور البطولة؛ بينما هو حارث روث الخنازير. تلك مهمة الغرب وحرياته في مجال الإلحاد والإباحية.

وهذه المهمة يرعاها اليوم ملاحدة في بلادنا ومخرجون وكتابٌ وممثلون، وروائيون وسيناريست، وشعراء، ومؤلفون، وفرق ومسرح، وأجهزة ومؤسسات ودور ثقافة، وأموالنا التي ندفعها لتدمير أخلاقنا وأخلاق أبنائنا وأجيالنا.. ويحمي كل هذا سلاح فتاك يقنص من هتف بالناس الى ربهم تعالى، وجعير فجرة الإعلام يقلبان الحق باطلا والباطل حقا ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، مقابل جينهات تدس في جيوبهم، أو قُل في “حسابهم”، ناسين ﴿سُوءَ الحِسَابِ﴾ يوم الحساب.

خاتمة

ثمة هتاف للبشرية من منهج الله ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..﴾ [النور: 32]. هتاف ليس لعقد مجرد بل لمنهج وطريق..

وثمة هتاف لفجرة البشرية وشياطينه، وصهاينته وملاحدته وصليبييه يهتف بالبشرية بالغرق والوحل، ويمجدون لهم السقوط ويتآمرون على الفطرة. مهما كان زخرف وتزيين المحرم وتقديمه في صورة أنه “مشاعر بشرية محترمة” فحينئذ هي مشاعر لا احترام لها، بل هي هبوط نجس وقذارة متبجحة.

آية من كتاب الله تدلك على الكثير؛ فتدبر..

…………………………

هوامش:

  1. البزار، برقم6/ 345، صحيح. والألباني في الصحيحة (481) صحيح.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة