إنها رسالة إلى الصادقين الذين استبطؤوا نصر الله لئلا يتسرب إليهم اليأس، ورسالة كذلك إلى المثبطين الشامتين الذين يتندرون على أهل النضال والجهاد في ثقتهم بموعود الله وتبشيرهم به، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
متى نصر الله؟
في خضم الصراع المرير الذي تخوضه المقاومة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، وفي ظل المعاناة غير المسبوقة لشعب غزة قتلًا وتجويعًا وتهجيرًا، تعلو هامةَ الوجدان تلك الآيةُ الكريمة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة ولمَّا يأتكم مَثَلُ الَّذين خلَوْا من قبلكم مسَّتْهم البأساء والضَّرَّاء وزُلزِلوا حتَّى يقول الرَّسول والَّذين آمنوا معه متى نصر اللَّه أَلَا إنَّ نصر اللَّه قريبٌ} [البقرة: 214].
تفجر تلك الآية في النفوس ينابيع التفكّر، وتبسط سبل الاهتداء في تلك العتمة إلى حقيقة النصر الموعود، وربطه بتلك المعاناة المستمرة، وتأخر النصر مع طول أمد القتال.
القاعدون المتفرجون والمتخاذلون
السؤال بصيغة “متى نصر الله؟” لا يحق للقاعدين أن يطرحوه، ففي ذلك المشهد القرآني الذي تضمن تعرّض الفئة المؤمنة للبأساء والضراء والزلزلة، تساءلوا بعد أن بلغ السيل الزبى متى نصر الله، تساءلوا على وجه استبطاء النصر الموعود لا التشكك والارتياب في حدوثه.. أما القاعدون المتفرجون – ومن باب أحرى المتخاذلون – فلا يحق لهم طرح هذا السؤال، تمامًا كشأن عدم أهلية هؤلاء القاعدين للبت في أمور المجاهدين، وتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي.
يسأل الذين أصابتهم البأساء والضراء وزلزلوا: متى نصر الله؟ وهذا حقهم، وهو الأمر الطبيعي الذي جرت به الفطرة البشرية، وهم مع ذلك موقنون بوعد الله، وهنا يطل علينا عامل الزمن في مفهوم النصر والتمكين.
خواطر حول كلمة وزُلزِلوا
تعالوا نغوص في ذلك المعنى الجليل للزلزلة، في ظل ما أتحفنا به الذين أفنوا أعمارهم في خدمة كتاب الله، ها هو الإمام محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) يقول في إحدى خواطره: “{وزُلزِلوا}.. فكلمة «زلزلوا» أصلها زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان هما «زل، زل»؛ و«زل»: أي سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثانية لها المعنى نفسه أيضاً، أي وقع من مكانه، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر: وقوع أول، ووقوع ثانٍ، والوقوع الثاني ليس امتداداً للوقوع الأول؛ ولكنه في اتجاه معاكس، فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة، إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة، وجهة الشمال مرة أخرى”.
إذن، ليست زلة واحدة، إنما هي زلات متكررة متنوعة، فاستحقاق النصر لا يكون إلا لتلك الفئة المتميزة التي تُؤتى الابتلاء مشفوعًا بالصبر، فتتكرر معها وقائع الزلزلة، ومعها الصبر والصمود والتطلع إلى نصر الله، حتى يأذن الله الحكيم المتعال بتنزُّل النصر.
عامل الزمن في مفهوم النصر والتمكين
النظر إلى عامل الزمن في مفهوم النصر والتمكين ينبغي أن يكون من خلال المنظور الشرعي الذي أتى بحقيقته الكاملة، فقرب النصر لا يقتضي الآنية، ليس بالضرورة أن يقع النصر ويتحقق التمكين بشكل عاجل، يوسف عليه السلام أُوِّلت رؤياه وهو لمّا يزل بعد طفلًا صغيرًا، ولم تتحقق إلا بعد عشرات السنين حين جُعل على خزائن الأرض.
النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة، بشّر سراقة بن مالك بسوارَي كسرى، وارتداهما سراقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عمر، بل كان صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وفي ظل الجوع والبرد والخوف، يبشر أصحابه بمفاتيح كسرى وقيصر، وقد كان في زمن الفتوحات بعد موته.
النصر قد يتأخرلكن سنن الله لا تتبدل ولا تتحول
النصر قريب باعتباره واقعًا في علم الله، وما هو واقع في علم الله فلا ريب في مشاهدته واقعًا في حياة عباده المؤمنين ولو بعد حين، جاء في تفسير روح البيان: ” فأجابهم الله بقوله: أَلا إنَّ نصر اللَّه قريبٌ، إسعافا لهم إلى طلبهم من عاجل النصر، أي: أنا ناصر أوليائي لا محالة ونصري قريب منهم، فإن كل آت قريب”.
اليقين بالعاقبة للمؤمنين
إن اليقين بالعاقبة هو أهم حقائق مفاهيم النصر، فالرسل وأتباع الرسل لابد وأن تكون لهم العاقبة، وهذا ما فهمه هرقل ملك الروم عندما سأل أبا سفيان بن حرب – وكان يومئذ على الشرك- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أبو سفيان أن الحرب بينهم وبينه سجال، فقال هرقل، كما جاء في البخاري: “وكذلك الرسل تُبتَلى وتكون لها العاقبة”.
النصر ليس بالضرورة أن يراه المؤمن في حياته
الله تعالى إنما وعد بالنصر لا بأن يراه طلّاب النصر، فالنصر وقع في علم الله، لكن ليس بالضرورة أن يراه المؤمن في حياته، فقد تراه الأجيال اللاحقة التي تنتفع بهذا النصر، ولنا في قصة غلام الأخدود عبرة، فقد استشهد قبل أن يرى النصر بعينيه، لكن قتله كان طليعة هذا النصر، فبعد أن فارق الحياة آمن الناس، فكان ذلك نصرًا مبينًا سعى من أجله في حياته، وتحقق بعد مماته.
النصر لا محالة آتٍ للفئة المؤمنة طالما استوفت شروطه، وتحلَّت بالصبر والصمود، فهو كما قال صاحب الظلال: “مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء”.
طوفان الأقصى بداية نهاية الكيان الصهيوني
المقاومة قد تحقق لها نصر عظيم نحن عنه غافلون، إنه نصر صناعة البدايات، فهي المرة الأولى التي تتجه فيها المقاومة بعد عقود من نشأتها لإعلان النفير العام، وخوض حرب شاملة ضد العدو الصهيوني لتحرير الأرض ومنع تهويد الأقصى، فمهما كانت المآلات وحتى لو خسرت المقاومة هذه الجولة – لا قدر الله – فإنها قد بدأت الطريق، ولن يكون اللاحق كالسابق.
إنها رسالة إلى الصادقين الذين استبطؤوا نصر الله لئلا يتسرب إليهم اليأس، ورسالة كذلك إلى المثبطين الشامتين الذين يتندرون على أهل النضال والجهاد في ثقتهم بموعود الله وتبشيرهم به، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر
صفحة الكاتبة إحسان الفقيه.
اقرأ أيضا
لماذا يتأخر النصر ومن يستأهله؟
أسباب النصر وأصول التمكين (1-2)