لَبس الحق بالباطل مأخذ ومسلك؛ قد لا يدرك البعض خطورته؛ فإذا نظرنا في تطبيقاته وجدناهم يحتجون لتبديل الشرائع، وترك الجهاد، وترك السعي للآخرة؛ فما أعظم طوامّهم..!

مقدمة

تقدم بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوساً شرعياً بتحريف الأدلة أو كتمانها، ثم بيان الأسباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية بدورها إلى الضلال والإضلال.

للمزيد راجع [ولا تلبسوا الحق بالباطل]

نذكر هنا بعضاً من صور اللبس والتضليل، وذلك لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا، ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع فيها والانخداع بها.

صور من لبس الحق بالباطل

من هذه الصور ما يلي:

الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله

وهي تلك الأنظمة المبدلة للشريعة والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف رضي الله عنهم أنه: “كفر دون كفر”. وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها، وإنزال الحكم في غير محله، وافتراء وتجنٍّ على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه الأمة، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون، فالله المستعان، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ومما قاله:

“وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب بها المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين، يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين”. (1عمدة التفسير، ج4، ص156ـ 158)

فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات، وإنه لا أحد يُنزل قول ابن عباس رضي الله عنه أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله، أو رجل منافق ملبّس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس رضي الله عنه؛ ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى وطمعاً في دنيا يصيبها؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سَنَّ حاكم حكماً وجعله شريعة يتحاكم إليها الناس.

الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، والرضى بالذل والمهانة

وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد على المحتجين بالقدر على ضلالهم ومعاصيهم، وإنما المقصود التنبيه على أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مُغالط وملبس ومدلس، وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود في مظانّه من كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا (أهل السنة والجماعة)، مثل: العقيدة الواسطية، ومعارج القبول، والعقيدة الطحاوية.. إلخ.

والمراد هنا: كشف اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة، حيث إن المحتج بالقدر على فعل المعاصي والإصرار عليها قد وقع في لَبْس عظيم، ويعلم هو بنفسه أن احتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله سبحانه كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار، وهي ميسرة لمن أرادها..؟!

لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا..؟

وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتماداً على رحمة الله سبحانه. نعم إن الله غفور رحيم؛ ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبّس على المعصية، وإنما المقصود منها: فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها وانتهى وندم، فيقال له: لا تيأس؛ فإن الله غفور رحيم.

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خشية الابتلاء

هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وبخلاً، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة “درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح” والضوابط الشرعية في ذلك.

فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية. والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله عز وجل؛ يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:

“ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: 49]“. (2مجموع الفتاوى، ج28، ص168)

فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله سبحانه عن كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن..! إن صاحب هذا القول قد نسي أو تناسى سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، وسنته سبحانه في الابتلاء والتمحيص؛ قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت: 10-11].

نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلاً، وإنما ما دام الأمن والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد.

ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء. كلا؛ فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى التهور والطيش معاذ الله، فلا بد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات؛ لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله سبحانه في ابتلاء المؤمنين، وأن نوطّن أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لا بد منها لكل من ادّعى الإيمان وتصدّر للدعوة والجهاد، ولا بد منها ليتميز الخبيث من الطيب، ولا بد منها لتمحيص القلوب والصفوف، ولو قلّبنا تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتاريخ الدعاة والمصلحين؛ لرأينا ذلك المَعْلم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً.

وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم بـ “التواضع” البارد و”الزهد في المسؤولية”، لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله سبحانه لا يعرف صاحبها الراحة، وتحتاج إلى همة عالية، لكنه عوضاً من أن يعترف بضعفه هذا، فإنه يغالط نفسه وغيره، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على الخوف من المسؤولية واحتقار النفس، وأن هناك من هو أوْلى وأتقى وأفضل..إلخ.

المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة الأمة

إن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة.

وإيضاحاً لهذا الأمر أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح.

قال البخاري رحمه الله في باب “المداراة مع الناس”:

“ويُذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشّر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم، وعن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي، صلى الله عليه وسلم، رجلٌ فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ثم ألنت له في القول، فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه”. (3البخاري، كتاب الأدب، وانظر: فتح الباري، ج10، ص528)

ويعلق ابن حجر رحمه الله على حديث عائشة بقوله:

“قال ابن بطال: “المداراة” من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن “المداراة” هي “المداهنة” فغلط؛ لأن “المداراة” مندوب إليها، و”المداهنة” محرمة، والفرق:

أن “المداهنة” من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه.

و”المداراة” هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك”. (4فتح الباري، ج10، ص28)

ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان، إذ إن “المداراة” صفة مَدْح، وهي لأهل الإيمان. بينما “المداهنة” صفة ذمّ وهي لأهل النفاق، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر..؟!

ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من المسلمين فحسب، وإنما الأخطر من ذلك هو مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة، حتى اهتز جانب الولاء والبراء الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد، وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف، بل اهتز عند بعضهم، والسبب في ذلك: الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة، أو المغالطة فيهما عن علم وهوى.

للمزيد: راجع [المداراة لا المداهنة]

خاتمة

إذا مازَج الهوى نظر الناظر في الشرع؛ يجعل الشرع مطية لهواه وتابعا له؛ لا يقول أنه مخطيء بل يرى نفسه على حق فتصعب التوبة على مثل هذا، ثم إنهم لا يكتفون؛ بل يدلون غيرهم ويدعونهم الى طريق الهلكة الذي سلكوه؛ فما أعظم الجُرم.

………………………………

الهوامش:

  1. عمدة التفسير، ج4، ص156ـ 158.
  2. مجموع الفتاوى، ج28، ص168.
  3. البخاري، كتاب الأدب، وانظر: فتح الباري، ج10، ص528.
  4. فتح الباري، ج10، ص28.

 اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة