تلبيس الحق بالباطل سمة عامة لأهل الضلال، وخاصة بارزة لأهل العصر؛ حيث يقوم بها منتسبون للعلم قصدا لإيقاع الفتن وتبرير الضلالات والانحرافات وترسيخ أقدام الطغاة.

أحابيل الشيطان

إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس وبخاصة في زماننا هذا، حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق والدجل والرياء.

نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام، وضُلل كثير من الناس وتمكن الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة بربهم سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا بسبب الْتباس الحق بالباطل والجهل بالعلم ولتعاون شياطين الجن والإنس ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]، فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ من القول خادعة، وتسمية للأشياء بغير أسمائها فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة، بسبب استيلاء الهوى على النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب.

ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها، كان لابد لهم من لَيّ أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة، لكان الأمر أهون، وكذلك لو أنه استدل بدليل في غير محله ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف لكان هذا أيضاً أهون، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله مَخْرَجَاً وشرعية، فيكابر بعد بيان الحق له، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا.

منطلق هذه الوقفات

إننا في زماننا هذا نرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل، وصوراً أخرى من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل، فكان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق، وأن يكشفوه للناس ولا يدَعُوهم لأهل الأهواء يلبّسون عليهم دينهم ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومعلوم ما ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل.

من أجل ذلك جاءت هذه الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع المهم على ضوء الكتاب والسنة وما ذكره العلماء الفحول، وقد اخترت عنواناً لها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾، وهو جزء من آيتين كريمتين وردت إحداهما في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42] والأخرى في سورة آل عمران

عند قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 71].

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

وهاتان الآيتان وإن كانتا قد نزلتا في أهل الكتاب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الأصول، فكل من كتم الحق وخلطه بالباطل وهو يعلم فهو من أهل هذه الآية، ولذلك سوف لا أتطرق لمحاولات أهل الكتاب ولا أصحاب الملل الكافرة في تلبيس الحق بالباطل ومغالطاتهم في ذلك، بل سينصبّ جل البحث على واقعنا المسلم الذي نعيش فيه وندعو إلى الله فيه، محاولاً كشف بعض الصور التي التبس فيها الحق بالباطل والتي يقع فيها بعض المنتسبين لهذا الدين من المنافقين وضعاف الإيمان لتبرير الانحراف أو التهوين منه والرضى به وإقراره، بل إن بعض الطيبين من دعاة وطلاب علم قد تأثروا بأولئك الملبسين فصاروا يرددون بعض ما يقولون بعلم أو بغير علم.

أهمية كشف الزيف والتلبيس

إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من تزييف وفتنة يكون لها الأثر السيء والضرر البالغ في تضليل الأمة وتحريف الحقائق وتزوير الأحداث، ويمكن توضيح أهمية الموضوع في الأمور التالية:

أولا: القيام بالعبودية لله تعالى لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه وتعالى، وأن تكون العبادة على بصيرة باتباع ما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، والبصيرة بالدين لا تتحقق مادام أن الباطل ملتبسٌ بالحق، مما يلزم تنقية الحق من الباطل قال تعالى: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 56].

ثانيا: كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلامية ماكرة مضللة تلبس على الناس دينهم وتخلط الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق وإظهار الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، وذلك لطمس الحق أو تشويهه وتشويه حملته والداعين إليه، فكان لا بد من إزالة هذا اللبس لإحقاق الحق وإبطال الباطل بقدر المستطاع ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 8].

ثالثا: السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار الإسلام أمام كثير من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي إزاء تلك النوازل، مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن يلبّسوا على الأمة أمرها، وتكلمت الرويبضة في أمر العامة، والأدهى والأمَرّ أن من أهل العلم من يساهم في هذا التلبيس فتراه يسمي الأمور بغير أسمائها، ويُنزل النوازل في غير مناطاتها، بل قد يثني على المبطلين ويغض من قدر المصلحين، فإلى الله المشتكى.

رابعا: أهمية تعرية الباطل وأهله، فمادام أن الحق مختلط بالباطل، وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين، فإن الدين سيبقى مشوهاً عند الناس، وسيبقى التلبيس فيه قائماً، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42].

خامسا: ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان الإسلام وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي قال الله تعالى في مثلها: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11-12]

سادسا: ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير المواقف الخاطئة والمخالفات الشرعية، سواء أكانت فردية أو جماعية فينبثق عنها مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم، ومنشأ هذه المغالطات في الغالب شهوة مزجت بشبهة فتولد عنها مغالطة.

مصطلحات في الموضوع

يحسن بنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع الإلمام بتعريفات كثر إيرادها، من أهمها “اللبس والتلبيس” و “الأغاليط والمغالطات”:

أولاً: اللبس والتلبيس

قال في لسان العرب:

“اللّبْس واللّبَس: اختلاط الأمر، لبّس عليه الأمر يلبسه لبْساً فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته، والتبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه، والتلبيس: كالتدليس والتخليط، شُدِّد للمبالغة، وربما شُدِّد للتكثير، يقال: لَبَستُ الأمر على القوم ألبْسُه إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً”.

وقال ابن الجوزي، رحمه الله، في تلبيس إبليس:

“التلبيس إظهار الباطل في صورة الحق”.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، عند هذه الآية: «فإنه من لبَّس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق».

ثانياً: الأغاليط والمغالطات

قال في لسان العرب:

“المغْلطَة والأغلوطة: ما يغالط به من المسائل. والجمع: الأغاليط. وفي الحديث أنه، صلى الله عليه وسلم، «نهى عن الأغلوطات»، قال الهروي: وأراد بها المسائل التي يغالَط بها العلماء ليزلّوا فيهيج بذلك شر وفتنة؛ وإنما نهي عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا بما لا يقع. ومثله قول ابن مسعود، رضي الله عنه: «أنذرتكم صعاب المنطق»؛ يريد المسائل الدقيقة الغامضة”.

وقد أخرج أبو داود، رحمه الله، في سننه عن معاوية، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن الأغلوطات. (1أبو داود كتاب العلم ح/8)، وروى كل من البخاري ومسلم حديث حذيفة المشهور في الفتن، وفيه قول حذيفة: «إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط». (2البخاري كتاب المواقيت ح/4، مسلم كتاب الإيمان) قال في الشرح: “الأغاليط” جمع “أغلوطة” وهي المسائل التي يُغلط فيها والأحاديث التي تُذكر للتكذيب.

ونقل الحافظ بن رجب، رحمه الله، في جامع العلوم والحكم عند شرحه للحديث التاسع من أحاديث الأربعين النووية قوله: وقال الحسن البصري: «شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله» وقال الأوزاعي: «إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علماً».

والحاصل مما ذكر أن المغاليط هي التي يثيرها المغالطون من صعاب المسائل أو المسائل التي لم تقع، وذلك ليغالطوا بها العلماء ليزلّوا فيعمّون بها العباد ويهيج من ذلك شر وفتنة وتلبيس على الناس، نسأل الله السلامة.

خاتمة

الأغلوطات مدخل للتلبيس، ومن في قلبه زيغ ترك الجادة والمحكم، ونحا نحو الأغلوطة والصعوبة وفرح بزلة العالم، وأخذ فيما غمض واحتمل، وترك المحكم الكاشف القاطع ليتوصل به الى الفتنة التي حذّر الله منها ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: 7]

………………………………..

الهوامش:

  1. أبو داود كتاب العلم ح/8.
  2. البخاري كتاب المواقيت ح/4، مسلم كتاب الإيمان.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة