ظلم العبد لغيره يعلق برقبته حقوقا كثيرة، ويُحمّله أوزارا وآثاما. والتوبة مخرج، ولها شروط وأوصاف بحسب كل حالة. والخوف من الآخرة يزعج التقي ليؤدي الحقوق ويتوب من المخالفة ويحقق شروطها.
مسؤولية الحقوق
من علم أنه موقوف بين يدي ربه تعالى ومسؤول عما قدم وأخر في أول عمره وآخره، وعن عمله وأثر عمله.. وعلم أن أكثر ما يدخل الموحدين النار هي حقوق الخلق بتقصيره أو تعديه، بذنوبه أو بإسرافه في أمره؛ كان مرتعدا من انتهاك الحدود واقتحام المحارم والتعدي على الخلق.
وما من العباد إلا؛ ولكن جعل الله تعالى التوبة فرجا ومخرجا لمن ضاق أمره وظلم نفسه.
وحري بمن خاف لقاء ربه ومقامه بين يديه أن يعلم سبل الخروج من هذه المظالم ليلقى الله نقيا خفيف الحمل من تبعات الخلق.
هل من سبيل إلى التوبة من حقوق العباد؟
سؤال مهم لا بد من الإجابة عليه ليعم النفع والفائدة، وليكون مخرجا لمن أراد أن يتحلل من تبعات العباد قبل يوم الفصل والحساب.
إن التوبة من الذنوب التي بين العبد وربه ولا تتعلق بحقوق الخلق أمرها سهل، وهي أهون بكثير من تلك التي تتعلق بحقوق العباد؛ وذلك لأن حق الله عز وجل مبني على المسامحة، فإذا صدق العبد في توبته وحقق شروطها فالله عز وجل أفرح بتوبة عبده من ذلك الرجل الذي فقدَ راحلته وعليها زاده وشرابه حتى يئس وأيقن بالموت ثم وجدها، بينما حق المخلوق مبني على المشاحة وعدم المسامحة؛ فالتوبة منه أشق وأصعب، لكنها سهلة على من وفّقه الله عز وجل لتدارك نفسه في الحياة الدنيا فزهد فيها ورزقه الله تعالى العزيمة القوية التي ينتصر بها على حظوظ نفسه وبالتالي بادر فرد الحقوق إلى أهلها وتحلل من أصحابها قبل مباغتة الأجل.
ومن المعلوم أن التوبة من ظلم العباد لابد فيها من شروط أربعة:
١- الندم على ما قام به من ظلم واعتداء على حقوق الناس.
٢- التعهد بعدم العودة إليه.
٣- الإقلاع السريع عن هذا الظلم وعدم الاستمرار فيه.
4- رد الحقوق والمظالم؛ قديمها وحديثها، إلى أهلها والتحلل منهم.
هذه مجمل الشروط المذكورة في كتب أهل العلم عن التوبة وأحكامها. والشرط الرابع منها هو الذي يحتاج إلى همة وعزيمة قوية للانتصار على النفس وحظوظها حتى ترد الحقوق إلى أهلها. ونظرا لأهميته وخطورة شأنه فلا بد فيه من مزيد إيضاح وتفصيل.
لأنواع الظلم والعدوان أمثلة كثيرة ترجع في جملتها إلى خمسة أنواع كبيرة:
- ظلم الناس في دينهم.
- ظلمهم في أبدانهم.
- ظلمهم في عقولهم.
- ظلمهم في أعراضهم.
- ظلمهم في أموالهم.
هذه الضروريات الخمسة التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها وحمياتها من المعتدين والمفسدين هي التي يقع فيها الظلم بين الناس.
التوبة من التعدي على ضروريات الخلق
ولذلك فلا بد في الحديث عن التوبة من حقوق العباد أن نتعرض لبعض هذه الضروريات وكيف تكون التوبة من ظلم العباد فيها وذلك فيما يلي :
أولا: التوبة من ظلم الناس في دينهم
من كان له دور في إضلال الناس في عقيدتهم أو أخلاقهم فإن من توبته أن يقلع عن ضلاله وإضلاله، وأن يندم على فعله وإفساده للناس، ولكن توبته لا تتم حتى يبذل وسعه لإصلاح ما أفسد، وإعلان توبته للناس وأن ما كان عليه وما كان يقوله لهم إنما هو باطل وضلال، ويعلن براءته منه ثم يبين الحق للناس ويدعوهم إليه. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة : 159-160]، فبيّن سبحانه في هذه الآية أن من شروط توبة الكاتم للحق والداعي إلى الضلال الإصلاح وبيان الحق للناس.
ولا شك أن هذا من أشق الأمور على النفس ولكنه يسير على من أراد لنفسه النجاة من تبعات العباد وأوزارهم يوم القيامة. وأهل السِيَر يذكرون في هذا المقام توبة أبي الحسن الأشعري من بدعته التي كان عليها واعتنقها خلق كثير فما كان منه إلا أن تبرأ مما كان عليه وبيّن للناس أن الحق هو ما كان عليه أئمة السلف وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالی.
قال صاحب وفيات الأعيان:
“وكان أبو الحسن الأشعري أوّلا معتزليا، ثم تاب من القول بالعدل (1العدل عند المعتزلة معناه: أن الله لا يخلق أفعال العباد، وهو أحد أصولهم الخمسة) وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة، ورقی کرسیا ونادى بأعلى صوته: “من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم) (2وفيات الأعيان 3/ 285)
وتحدث عن نفسه وعن عقيدته في كتابه الإبانة فقال:
“قولنا الذي نقول وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا ، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث. ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضَّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مُجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال ووضع به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدَم وخليل معظمَ مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين”. (3الإبانة لأبي الحسن الأشعري: ص80)
والحاصل أن مَن أضل الناس بكلمة مقروءة أو مسموعة أو مرئية في كتاب أو مجلة أو إذاعة أو تلفاز أو غير ذلك من وسائل النشر والإعلام؛ فإن من شروط توبته من ظلم العباد وأوزارهم أن يقلع عن فعله، وأن يعلن براءته مما كتبه أو قاله من الضلال، وأن يبين ما يضاده من الحق والإصلاح.
فإن لم يفعل فليعِدّ للسؤال جوابا، وليستعد لحمل أوزاره، وأوزار الذين أضلهم وأفسد عليهم دينهم وأخلاقهم، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا.
ثانيا: التوبة من ظلم الناس في أبدانهم وأنفسهم
وظلم الناس في أبدانهم وأنفسهم يكون بالاعتداء على نفس معصومة بالقتل أو الضرب أو السجن والتضييق .
والتوبة مما هو دون القتل أمر ممكن لإمكانية القصاص من الجاني، وإمكانية التحلل من المجني عليه وإرضائه بالقصاص أو غيره. فإذا تاب الجاني من ذنبه، واستغفر ربه، وسلّم نفسه، ورضى المجني عليه بالقصاص أو ما دونه أو عفا عن الجاني؛ فإن التوبة حينئذ قد كملت شروطها وبرئت ذمة الظالم من ظلمه لأخيه.
أما جريمة القتل فالتوبة فيها شاقة لموت المقتول حيث فاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته. ولكن لو أن القاتل سلم نفسه، فقُتل قصاصا هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق..؟
هذا محل اختلاف كبير بين الفقهاء يظهر لنا عظم جرم الاعتداء على نفس معصومة بالقتل، وأن القصاص من الظالم ينتظره يوم القيامة حتى ولو اقتُصَ منه في الدنيا على أحد القولين، والقصاص يوم القيامة إنما يكون بأخذ الحسنات، وقد لا تفي الحسنات بالحق فيَحمل القاتل من سيئات المقتول ما يكون سببا في دخوله النار عياذا بالله تعالى .
أما ما دون القتل فإن حصل القصاص من الجاني، أو عفا عنه المجني عليه وندم الجاني على فعله وتعهد بعدم العودة إلى ذلك؛ فالتوبة حينئذ كاملة ومقبولة إن شاء الله تعالى.
أما إذا لم يسلّم الجاني نفسه ولم يقتص منه وتمنّع من ذلك بجاه أو غيره فإن ذمته مشغولة والقصاص أمامه يوم القيامة، ويلحق بذلك من ظَلم مسلما بسجن أو تعذيب أو كان سببا في ذلك ثم لم يتحلل من ظلمه فإن الحساب أمامه؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]. ففي هذه الآية تهديد للظالم وتسلية للمظلوم.
ثالثا: التوبة من ظلم الناس في أعراضهم
والتوبة من هذا الظلم تختلف حسب الصورة التي يظهر فيها :
– فإن كان الظلم بالنيْل من أعراض الناس بالغيبة والنميمة والكذب والهمز واللمز ونحوها؛ فإن التوبة لا تصحّ إلا بالتحلل منهم وطلب المسامحة منهم ما داموا على قيد الحياة، فإن أظهروا المسامحة وأباحوا من وقع في أعراضهم فقد برئت ذمته بشرط الندم وعدم الإصرار.
أما إذا تعذر التحلل منهم إما لموت أو خوف المفسدة التي تنجم عن إعلامهم بغيبتهم أو النميمة عليهم؛ فإن أمر التوبة والحالة هذه تكون صعبة، وإن كان هناك من أهل العلم من يرى أن الذمة تبرأ بالدعاء لهم والاستغفار وأن يثني عليهم في المواطن التي اغتابهم فيها.. ومع ذلك فينبغي لمن ظلم العباد بالنيْل من أعراضهم ولم يتمكن من التحلل منهم أن يكثر من الحسنات والقربات ليتمكن من الوفاء منها لهم يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم.
– وإن كان ظُلمه لهم بالقذف والتهم الباطلة في العرض فعليه التوبة والإصلاح كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 4-5].
– وإن كان الظلم للناس في أعراضهم بإشاعة الفاحشة بينهم والإسهام في ذلك بكلمة أو كتاب أو فيلم أو غير ذلك من الوسائل التي تثير الشهوات وتسهل اختلاط الجنسين وتهون أمر الفاحشة أو مقدماتها؛ فتوبة هؤلاء ـ إن كانوا صادقين ـ لا تحصل إلا بندمهم على أفعالهم واعترافهم بتحريمها، وإقلاعهم السريع عنها، وعزمهم على أن لا يعودوا.. هذا ما يتعلق بحق الله عز وجل في توبتهم من ذنوبهم، ويبقى حق العباد الذين أضلوهم وأفسدوا عليهم أخلاقهم وأعراضهم فلا تبرأ الذمة منها حتى يبذلوا الجهد المستطاع في إصلاح ما أفسدوا، وبتبرأوا من أفعالهم، ويبينوا للناس أنها باطلة وفاسدة، وأن لا يفتُروا عن الإصلاح وبذل النصح للأمة كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النمل: 11]، وقوله سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة : 160].
رابعا: التوبة من ظلم الناس في أموالهم
الأصل في التوبة من حقوق الناس المالية أن ترد الحقوق إلى أهلها في الحياة الدنيا سواء ما أخذ بطريق السرقة أو النهب والاحتيال أو الغش والتدليس أو الغصب والغلول والرشوة.. إلخ، فإذا ندم الظالم لحقوق الناس على ظلمه وعقد العزم على أن لا يعود وأوقف ظلمه وأقلع عنه ثم رد الأموال المسروقة أو المغصوبة إلى أهلها فقد برئت ذمته وقبلت توبتة إن شاء الله تعالى.
على منوالها فانسُج
هذه أمثلة للتوبة والتخلص من حقوق الخلق. وعلى منوالها ينسج العبد المؤمن. والتوقّي من البداية خير وأفضل؛ فالتقوى حالة في القلب تستوجب توقيا باللسان والجوارح وتعظيما لحقوق الله في خلقه. والله تعالى العاصم.
………………………..
الهوامش:
- العدل عند المعتزلة معناه: أن الله لا يخلق أفعال العباد، وهو أحد أصولهم الخمسة.
- وفيات الأعيان 3/ 285
- الإبانة لأبي الحسن الأشعري: ص80.
المصدر:
- فضيلة الشيخ عبد العزيز الجُليّل، كتاب “وقد خاب من حمل ظلما”، ص185-198.