تشتد الفتنة على المسلمين من تتابُع قهر الحكام الظلمة والفجار، واستعلاء الإباحية والفجور، ثم تبعهم تتابع العلماء والدعاة اعتذارا عن دين الله وعن الدعوة اليه..!
الحدث
اعتذر الداعية السعودي عائض القرني عن مواقفه الفكرية السابقة، معتبرا أن الصحوة الإسلامية صاحبها تشدد وتضييق، مؤكدا في الوقت ذاته أنه مع الإسلام المنفتح المعتدل الذي نادى به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وفي برنامج “الليوان” الذي بث أمس الاثنين على قناة “روتانا خليجية”، قدم القرني اعتذاره للمجتمع السعودي عن الصحوة ـ التي شهدت انتشارا واسعا في الثمانينيات والتسعينيات بالسعودية وخارجها ـ وما صاحبها من أخطاء قال إنها خالفت فيها الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام والدين الوسطي المعتدل وضيقت على الناس.
وأكد القرني اعتذاره باسم رجال الصحوة جميعا الحاضر منهم والغائب، موضحا أنه الآن مع الإسلام المنفتح على العالم، والوسطي المعتدل الذي نادى به محمد بن سلمان.
وهاجم وسائل الإعلام التي تصفه بأنه “عالم سلطان” و”مُطبّل”. كما هاجم الإخوان المسلمين وقطر والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذين قال إنهم يستهدفون السعودية.
وانتقد مغردون القرني الذي قالوا إنه يبدل أقواله كثيرا، مستشهدين بموقفه من الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، ومديحه لأردوغان قبل سنوات ودعوته المسلمين إلى دعمه ودعم تركيا.
[للإطلاع على الفيديو: اطلع على هذا الرابط ]
التعليق
اتجاه الفتنة اليوم
قبل كل تعليق فلا بد من تحديد ما يسير فيه حكام اليوم وما رفضه الدعاة الكرام المعتقلون في السجون، لنعلم المقصود من تغير اتجاه الناكصين اليوم..
فاتجاه الأنظمة الحاكمة في منطقتنا اليوم جميعها هو الخضوع التام للعدو الصليبي والصهيوني ولإملاءاته، ولعقائده وأفكاره واتجاهاته، ولترسيخ مصالحه وإعلان فوزه في هذه الجولة منذ قرنين، لييبلغ من المسلمين ما لم يحلم به من انسلاخٍ عن “الهوية” والتنكر لرابطة الإسلام تحججا بحب الأوطان، والخروج من الشريعة بحجة رفض الإرهاب.
واتجاه اليوم هو قمع دعاة الإسلام وعلمائه ليفتح الطريق أمام الإلحاد والإباحية والعلمانية وتهويد القدس والتسليم للصهاينة بالقيادة والاستعلاء.
هذا مع تحقيق “مصالح” الغرب المتمثلة في مصالح “اقتصادية” بأموالنا، و”سياسية” بتركيع الشعوب بالقهر والتغييب والتضليل، و”اجتماعية” بتغيير قيمي عميق ومخلّ بمجتمعات المسلمين، و”استراتيجية” بمحاولة إخراج الإسلام من المعادلة والصراع.
والاستعلان بالمحرمات والمجون والخمور والرقص في بلاد الحرمين هو خطوة يرافقها التشكيك في الغيب، والطعن في الدين والثوابت والوحي والصحابة. بل وصدرت دعوات للعودة الى وثنية ما قبل الإسلام أسوة بأوروبا التي عادت الى الإغريقية؛ فتقدمت..!!
في ضوء هذا نعرف معنى التحول وإلام يرمي.
عن أي شيء يعتذرون..؟!
والاعتذار اليوم يعني الاعتذار عن الدعوة وعن نشر دين الله وعن السعي لإقامة الشريعة وإحياء الهوية الإسلامية وعن جمع الأمة على مشروعها الإسلامي، وعن توبة الملايين وصلاح الكثير وانتشار الحجاب والعفة، وعن تعظيم أحكام الله، وطلب العلم، وعن طرد العقائد العلمانية والقومية والليبرالية الرافضة لشريعة الله، وعن السعي لإقامة النظام الراشد الذي يحقق الحرية في إطار الإسلام ومع إقامة أحكام الله، وعن نشر الدعوة في بلاد الغرب وإفريقيا وغيرها.
فالاعتذار عن هذا الذي مثلته “الصحوة” هو سقطة كبرى تقترب أن تكون نفاقا أعظم أو ارتدادا عن هذا الدين.
فتنة الاعتذار الممتدة..!
هذا الاعتذار يمتد ـ للأسف ـ لأن يكون اعتذارا للصهاينة عما هددتهم به الصحوة وما كان في الأمة من أمل يهدد وجودهم وينادي بالجهاد لاسترداد أرض المسلمين.. “أما إنه سيكون بإذن الله”.
ويمتد ليكون اعتذارا للصليبيين عن سريان الإسلام فيهم، وانتشاره في بلادهم، وتهديدهم بعودة المارد الإسلامي والحضارة الإسلامية مرة ثانية.
ويمتد الاعتذار ليكون اعتذارا لكل فاسق مجتريء، ولكل فاجر مجرم، ولكل منافق يكذّب بالدين أو يشك فيه أو يبغض أحكامه وعُلوّه.
وهو اعتذار يخطّيء كل من أطاع ربه واستقام على أمر دينه؛ ليوصل اليه رسالة فتنة يقول له نعتذر عن دعوتنا لك لطاعة رب العالمين.
فعن هذا يعتذر المسلم..؟ وهل يبقى مسلما..؟
ولهذا حذر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.
علامات الفتنة وسوابقها
ما من موقف بدا يوما إلا وقد سبقت له أخوات، ومهّد له ضعفُ مآخذ.
ومن العلامات القرب من السلاطين، وكيل المديح، والمبالغة في المدح والإطراء. ومنه الثناء المسبَّق على الحكام قبل أن يروا منهم خيرا؛ فهو ثناء وإطراء استباقي..!
فكل من سقط فله سوابق رآها الناس أو خبيئات أورثته ضعفا ففاجأ الناسَ بسقوطه.
إن القرب من الملوك لطلب الدنيا مفسد؛ فللدنيا تكاليف للوصول الى غاياتها، وللآخرة تكاليف أخرى. ولهذا يجب العلم أنه ليس الجميع يقبل أن يكون منديلا للظالمين يتمسحون به، ويتنظفون من قاذوراتهم أمام الناس ليستمروا في المزيد من المحرمات والانحراف بالناس وسرقتهم؛ بل ثمة قناديل مضيئة وأقمار تضيء في بقاع شتى، حتى ولو في قعر زنزانة.
منهم من يبدّل ومنهم من ينسلخ
لا تتعجب من “الانقلاب” في المواقف فقد ذكر تعالى “الإنسلاخ” من الآيات ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ (الأعراف: 175 – 176)
وفي صورة أخرى يكون الكتمان ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ (البقرة: 159).
وفي صورة ثالثة يكون التبديل ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 78)
ومما يدخل في “الكتمان” و”التبديل” ويقترب من “الانسلاخ” من آيات الله:
اقتراب العلماء من الحكام المنحرفين، فيضطرون الى بيان أمر والاستخفاء بأمور؛ حتى إذا خلّفوا إرثا تركوه ملوَثا؛ فلم يعرف الناس أهذا ما أملته الشريعة وأملاه دين الله أم هذا ما أملاه الاستخفاء والتقيّة.
لهذا آثر أهل العلم أن يكونوا على مسافة من الظالمين ـ ولو كان ظلما جزئيا ـ ليكون بيانهم بلا شوب ولا مواربة.
أما في زمن “تبديل الشرائع” فلا يدري الناس أهم يدافعون عن الإسلام أم يحطمونه ويهدمونه بأيديهم؛ ففي مثل أيامنا يُقنع المنحرفون من الدعاة والعلماء الذين اقتربوا من الظلم وعاشوا في كنف التبديل؛ يُقنعون الناس أنهم “ينقذون” الاسلام ويحافظون على “هوية” البلاد بمساندة الحكام العلمانيين قتلة المسلمين والمتحالفين مع الصهاينة..! الى آخر هذه الأكاذيب؛ بينما الناس أنفسهم يرون الاسلام يضعف ويتلاشى من مساحات وقطاعات، ويُمحى في قلوب الناس، ويتراجع في الأخلاق والممارسة، وتترسخ أخلاق قذرة وعقائد فاسدة بديلة عن دين الله.
إن جريمة “الكتمان” “والتبديل” و”الانسلاخ” من آيات الله، تقود بلادنا ومجتمعاتنا وذرياتنا اليوم الى مستنقع مخوف. فليحذر من أضاع عمره في جمع العلم ثم خدم به طاغوتا. وليحذر الناس ممن يأخذون بأيديهم ليحاربوا دينهم بأنفسهم.
لهذا تعرف سبب لعنة الكاتمين؛ فما بالك بالمبدلين؟﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة: 159). قد حقت عليهم اللعنات من الله والملائكة والناس أجمعين، يوم يوجه لهم الخلق جميعا لعناتهم. والى الله المشتكى
ولن يرضوا عنك
لا يظنن من ركن الى الظالمين أنْ سيرضون عنه، فسيبقى يعتذر وينسلخ، ويبقى يهاجَم فيدافع ويترك، ويبقى يتهَم فيترك أكثر ويبتعد، ويبقون يشككون فيه فيُبعد شكهم عنه بمزيد من الانسلاخ والتعري، ولن يرضوا؛ إذ من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
سيتتبعونه، ليمحو عمره كله سطرا سطرا، وموقفا موقفا، حتى يصبح منهم كما أرادوا، وإن حدث ذلك فقد فقد قيمته فيقدّمون عندئذ رموزهم لا متراجعا شائها.
خاتمة .. الفزع الى الله
لا تنس الضراعة دوما، تمد يديك، وتبكي وتخشع، وتضرع وتمسكن، وتمد يديك تقول “يارب” “يارب”، ليثّت قلبك ويرزقك الحياة على الدين، والوفاة عليه؛ فهي نعمة وأيما نعمة.
لهذا وقف الراسخون في العلم موقفا عظيما لكنهم لم يركنوا الى أنفسهم؛ بل قالوا ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران: 8). ونختم بأبيات ابن القيم رحمه الله:
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها … إذ لا تُردُّ مشيئة الديــــان
وانظر بعين الأمر واحملهم على … أحكامه فهما إذاً نظـــران
واجعل لوجهك مقلتين كلاهما … من خشية الرحمن باكيتـانلو شاء ربك كنت أيضا مثلهم … فالقلب بين أصابع الرحمـــن (1شرح قصيدة ابن القيم، 1/ 131)
…………………………………….
هوامش:
- شرح قصيدة ابن القيم، 1/ 131.