مع الهوية الواحدة، تتحقق المشاركة من خلال الأطر المشتركة، للمصالح والأعراق والوظائف الشرعية، ليجد الناس أطر “عمل” بينما الانتماء محسوم بهوية واحدة.
هوية واحدة دون الْتباس
في الجزء الأول أوضحنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى للأمة هويتها منذ اللحظة الأولى، وأنه منذ اللحظة الأولى لوجوده والمؤمنين معه كانوا أمة واحدة من دون الناس.. وأنه جردها من الالتباس بالقضايا الرائجة آنذاك..
وأنه أقام هذه الهوية على التوحيد الخالص، فهي هوية مرتبطة بالعقيدة فلا يمكن التخلي عنها أو التذبذب بشأنها..
وأنه اسقط مشروعية أي افتراق ديني أو دنيوي بين المسلمين، فأي حالة من الافتراق يجب تصحيحها فورا وإلا أثم المسلمون، وبقي الوجوب عليهم قائما للتصحيح..
وأعطى صلى الله عليه وسلم للهوية عمقها وفاعليتها من خلال تحقيق مشاركة الأمة في الحكم وإدارة شؤونها من خلال عمل أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة تمثيلا حقيقيا..
ولم يكتف بهذا صلى الله عليه وسلم بل قرر حقائق مهمة؛ منها:
6- أُطر متعددة، وهوية واحدة
أبقى على الأُطر الطبيعية للمشاركة، لكن في إطار ولاء الإسلام..
فبذلك حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاركة الأمة له من خلال ممثليها عن أطرها المختلفة التي أبقى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وسواء كانت أطر ولاءات خاصة أو أطر عمل إسلامي؛ ولكن داخل ولاء الإسلام العام وعقيدته الواحدة وشريعته الواحدة وهويته الواحدة سواء كانت الأطر عرقية أوظائف شرعية أو مصالح مشتركة.
فـ “المهاجرون” و”الأنصار” مثال لأطر الوظائف الشرعية، وغفار وأسلم وجهينة أمثلة لأطر قبليات عرقية ورحم.
شواهد السيرة
وتروي لنا السيرة قبيل فتح مكة كيف كان تشكيل جيش المسلمين الفاتح يقول العباس في حديثه عن فتح مكة وإسلام أبى سفيان: فلما ذهب لينصرف (أي أبو سفيان) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ـ حتى تمر به جنود الله فيراها».
قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم فيقول ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ومزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء.
قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ ولا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء !! قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً !!، قال قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال فنعم إذن. (1زاد المعاد في هدى خير العباد، جـ2، ص 182، ومختصر سيرة ابن هشام)
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: الجد بن القيس على أنا نبخّله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوأ من البخل، ولكن الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور».
وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري: أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فجاء فقال: «قوموا إلي سيدكم» أو قال: «خيركم»، فقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هؤلاء نزلوا على حكمك». قال: فإني أحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم فقال: «حكمت بما حكم به الملك».
وفي رواية أحمد عن عائشة رضي الله عنها: «قوموا إلي سيدكم»، فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل، قال: «أنزلوه»، فأنزلوه. (2الفتح جـ7 ص476، وذكر الحافظ أنه حسن جـ 2 ص53)
[اضغط للاطلاع على: الإسلام هوية تجمع الأمة]
وأما نموذج أُطر المصالح المشتركة
فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن أسماء بنت يزيد الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ أتت إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت:
يا رسول الله إني وافدة النساء إليك، إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، وإنا ـ معشر النساء ـ محصورات، قواعد بيوتكم، مقتضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وأنتم ـ معشر الرجال ـ فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهادة الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن الرجل إذا خرج حاجًا أو معتمرًا أو مرابطًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله؟
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه كله إلى أصحابه ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها؟» فقالوا يا رسول الله، ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا.
فالتفت النبي إليها ثم قال: «انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الزوج ـ اعترافًا بحقه ـ يعدل ذلك كله، وقليل منكن من يفعله».
وأيضًا فيما يرويه ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
«لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟»
قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة».
فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله، وأثنى، ثم قال:
«يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتاكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله. وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟»
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدّقتم آتيتنا مكذبًا فصدقناك ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك.
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده.
لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا…». أ هـ.
شرط قبول الأُطر المختلفة
ولا بد في كل هذا أن يتقدم الولاء العام للإسلام والمسلمين عامة على الولاء الخاص للإطار الذي ينتمي إليه المسلم أو يُقْطع هذا الولاء الخاص ولا يتقدم إذا تعارض مع الولاء العام ولم يكن خادمًا له.
وبالإبقاء على التعدد عمق المشاركة وبتعميق المشاركة يتعمق الانتماء ولا توجد أي درجة من الاغتراب.
[اضغط لمعرفة: خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية]
7- حقق التوازن بين الفرد والجماعة
حقق صلى الله عليه وسلم التوازن بين الفرد والجماعة بأن ربَّى صلى الله عليه وسلم أصحابه على روح الفريق لا روح القطيع، ولا روح التشرذم والتدابر والتنازع والاختلاف:
روح الفريق ـ من خلال الشخصية الواعية البصيرة ـ في قوله: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
يقول الإمام ابن كثير:
يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي. (3تفسير القرآن العظيم جـ2 ص 495-496)
فالبصيرة واليقين والبرهان أولى سمات روح الفريق التي يتربى عليها الأفراد ويذم الله ـ تبارك وتعالى ـ أناسًا فقدوا البصيرة وتربوا على روح القطيع فيقول جل وعلا:
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171] ، فلا يكون المسلم كالهمج الرعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى ركن وثيق.
وينهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيقول: «لا يكن أحدكم إمّعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم» [الترمذي، رقم 62].
حتى يكون المسلم أهلاً لما وصفه به صلى الله عليه وسلم: «يسعي بذمتهم أدناهم».
وقد تحقق هذا في القرن النبوي حتى أجارت امرأة من المسلمين وأقرها صلى الله عليه وسلم بقوله: «أجرنا من أجرت يا أم هانئ». (4الرحيق المختوم، ص 393)
وقد بعث صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن فسأله: «كيف
تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال بكتاب الله، قال : «فإن لم تجد»، قال: فبسنة رسول الله، قال: «فإن لم تجد؟» قال: «أجتهد رأيي ولا آلو». (5مسند أحمد: جـ5، ص242)
فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه يجتهد رأيه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في مسألة الأسارى يقول فيها برأي خلافًا لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ويُقِرُّه القرآن الكريم على رأيه [الرحيق المختوم، ص219]، ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 68].
وحتى صبيان المسلمين ـ فضلاً عن كبارهم ـ يتربون على ذلك:
“فهذا الصبي: عبد الله بن الزبير يلعب مع الصبيان في الطريق فيمر بهم عمر رضي الله عنه فيفر الصبيان هيبة من عمر إلا ابن الزبير.
فيسأله عمر رضي الله عنه: لِم لَم تهرب مع الصبيان؟ فيقول الصبي كلمته التي حفظها له التاريخ:
«لست جانيًا فأفر منك، وليس في الطريق ضيق فأوسع لك»”. (6عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام، جـ1 ص304-305)
كرامة الإنسان ونمو شخصيته
فأخذت شخصية كل فرد من أصحابه صلى الله عليه وسلم مساحتها في النمو دون عناصر ضاغطة عليها من الخارج تؤدي إلي ضمور عناصر هذه الشخصية أو تلف خامتها البشرية أو كونها شخصية تعتمد على التلقين والإيحاء والتقليد دون بصيرة.
ورغم الفارق الضخم جداً بين شخصيته صلى الله عليه وسلم وبين شخصيات أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ بل والناس كافة لم تضمر شخصياتهم إلى جواره بل تُوفي صلى الله عليه وسلم وقد ترك معجزة عظمى من معجزاته صلى الله عليه وسلم أصحابه نجومًا يُهتدى بهم ويُسترشد.
فلم يُحدث فراغًا بموته صلى الله عليه وسلم بل ترك السماء مليئة بالنجوم.
نمو شخصية الفرد واستقلاليتها إذن أمر ضروري… ولكن بعيدًا عن روح التشرذم والتدابر والتنازع والاختلاف.
روى الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «وأُمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة، وأغرنا عليهم وكانوا كثيرًا، فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لِم تقاتلون في الشهر الحرام؟
فقلنا: إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟
فقال بعضنا: نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فنخبره. وقال قوم: لا بل نقيم.
وقلت أنا في أناس من أصحابي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها، فانطلقنا إلى العير وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئًا فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر..
فقام غضبانًا محمر الوجه فقال: «أذهبتم من عندي جميعًا وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لآبعثن عليكم رجلاً ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش»، فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير في الإسلام».
ويوصي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا». (7البخاري: جـ4، ص 79)
الهوامش:
- زاد المعاد في هدى خير العباد، جـ2، ص 182، ومختصر سيرة ابن هشام.
- الفتح جـ7 ص476، وذكر الحافظ أنه حسن جـ 2 ص53.
- تفسير القرآن العظيم جـ2 ص 495-496.
- الرحيق المختوم، ص 393.
- مسند أحمد: جـ5، ص242.
- عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام، جـ1 ص304-305.
- البخاري: جـ4، ص 79.
المراجع:
- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير.
- صحيح البخاري.
- سنن الترمذي.
- فتح الباري، لابن حجر.
- مسند الإمام أحمد.
- زاد المعاد، لابن القيم.
- سيرة ابن هشام.
- الرحيق المختوم، للمباركفوري
- تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان.
- الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.
لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:
اقرأ أيضا:
كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1) تحديد الهوية ومنع الالتباس
كيف أخرج رسول الله خير أمة؟ (3) دور القيم .. وأهمية التوازن