حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله استخدمت تلك العبارة من قبل كثير من الجهلة وأهل الأهواء؛ كالعلمانيين وغيرهم، واستغلوها في رد النصوص الشرعية المخالفة لهواهم وردوا كونها من الشرع بحجة أنها تتعارض مع المصلحة.
الرد على شبهة احتجاجهم في تعطيل بعض أحكام الشريعة بتحقيق المصلحة
إن كل ما شرعه الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، إنما شرعه سبحانه لمصلحة الإنسان وخيره في الدنيا والآخرة، فأينما كان شرع الله عز وجل فثمت المصلحة، وقد أكمل الله لنا الدين، فلا حاجة لمن يأتينا ليعلمنا أن المصلحة هنا أو هناك، فكيف إذا كان مدعو المصلحة أرادوا الاعتراض على شرع الله عز وجل، وتعطيل أحكامه سبحانه، بحجة المصلحة زعموا!!
أقسام المصالح
تنقسم المصالح في ميزان الشرع الحكيم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: يشهد الشرع بقبولها بدلیل معين فيها، فهذه لا سبيل إلى ردها، ولا خلاف في مشروعية الأخذ بها وإعمالها، وتركها مناقضة للشريعة، وذلك كشريعة القصاص، حفظا للنفوس والأطراف، وشريعة قطع يد السارق حفظا للأموال، وشريعة تحريم الخمر وعقوبتها حفظا للعقول، وشريعة عقوبة الزنا حفظا للنسل والأعراض.
الثاني: ما شهد الشرع بردها، فلا سبيل إلى قبولها. كمصلحة شرب الخمر والتعامل بالربا وبيع المحرمات ومصلحة الرشوة وأكل المال.
الثالث: ما سكت عنها الشرع، فلم يرد دليل خاص بعينه لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، ولكنه يلائم تصرفات الشرع، بأن يوجد لمعناه جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهذا هو الاستدلال المسمى بالمصالح المرسلة.
إذا يمكننا تعريف المصلحة المرسلة بأنها: المعنى المناسب الملائم لتصرفات الشرع، الذي لم يأت دليل معين باعتباره ولا بإلغائه.
ويتضح من هذا التعريف أنه لا يمكن أن توجد مصلحة شرعية، ولم يدل الشرع عليها، إما بدلیل معين عليها، أو بدخولها تحت معنی عام يلائم تصرفات الشرع.
والذين يعترضون على شرع الله عز وجل بمصالح موهومة، يريدون منها تعطيل بعض الأحكام الشرعية يدخلون تحت القسم الثاني، وهو المصالح التي شهد الشرع بردها. كما يدخلون في القسم الثالث محتجين بالمصالح المرسلة، لكن بدون الأخذ بشروطها وضوابطها، وإنما حسب أهوائهم وموازينهم الجاهلية. ومن هذا الباب دخل أهل البدع والمشرعين من دون الله .
ولقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم بالمصلحة بضوابطها الشرعية في كثير من الأمور، التي لم يوجد عليها دلیل بعينه في الكتاب والسنة، لكنها تدخل تحت المعنى الملائم للشرع، الذي هو من مقاصد الشريعة الإسلامية.
وذلك مثل جمع القرآن، وتدوين الدواوين، وجمع عثمان الناس على مصحف واحد، وعدم إنفاذ عمر رضي الله عنه حد السرقة عام المجاعة… إلخ، ومن ثم تبعهم الأئمة الأعلام ومن بعدهم، فدونوا العلوم كعلوم العربية، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه.. إلى غيرها من المصالح، الذي لا يشك عاقل أنها معتبرة شرعا.
ولكن من هو الذي يقرر أن هذا الأمر أو ذاك من المصالح المرسلة؟ إنهم العلماء المهتدون الراسخون في العلم، ولیس عوام الناس، أو من أخذوا بنتف من العلم، ويحسبون أنهم من الراسخين في العلم. فضلا عن أهل الأهواء والشهوات ولو ترك الأمر لكل مدع للعقل والعلم لفسدت أديان الناس، ولأدخل في الدين ما ليس منه، وبخاصة في مثل زماننا اليوم، الذي عمت فيه الشبهات والشهوات، وصار كثير من الناس يسيره هواه وشهوته، عياذا بالله تعالى.
وصدق الله العظيم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:71].
ضوابط المصلحة المرسلة التي تفرقها عن المصلحة الملغاة والموهومة
– الضابط الأول: أن لا يعارض الأخذ بها نصا شرعيا من كتاب أو سنة صحيحة، فإذا ورد في الكتاب والسنة ما يعارضها أو يلغيها، سواء بمنطوق النص أو مفهومه، فهي ملغاة مردودة وليست مرسلة.
– الضابط الثاني: عدم معارضتها للإجماع.
– الضابط الثالث: اندراجها في مقاصد الشرع. وهذا هو معنی القول السابق في تعريف المصلحة المرسلة: (هي التي لم يرد دليل معين باعتبارها أو إلغائها. ولكن اعتبارها أخذ من النصوص العامة التي تحقق مقاصد الشريعة في حفظ الدين، والعقل والنفس والمال والعرض، وجميع المصالح وسائل لتحقيق المقاصد.. فجمع المصحف مثلا وسيلة لحفظ الدين، وقتل الجماعة بالواحد وسيلة لحفظ النفس … وهكذا.
ومن ذلك يمكن القول بأن كل ما يعارض المقاصد أو يكون وسيلة لهدمها أو بعضها وإن كان في الظاهر مصلحة فهو ملغی و مردود.
– الضابط الرابع: عدم معارضتها للقياس الصحيح، الذي توفرت شروطه الشرعية، والقياس الصحيح في حقيقته مصلحة.
– الضابط الخامس: عدم تفويتها لمصلحة أهم منها.
مما لا شك فيه أن الأصل تحصيل جميع المصالح، ودفع جميع المضار، ولكن قد تتعارض بعض المصالح، ويكون لا بد لنا من تحصيل بعضها، وتفويت الآخر. فإذا تزاحمت مصلحتان ولا يمكن أخذ أحدهما إلا بتفويت الأخرى، فإنه يؤخذ بأكبرهما مصلحة ولو فاتت المصلحة الصغرى، أما إذا كان أمامنا مصلحة لا يمكن الأخذ بها إلا إذا فوتنا مصلحة أكبر منها، فإنها والحالة هذه تعد ملغاة، ولا تعد مصلحة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «الشريعة جاءت بتحصیل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما»11- مجموع الفتاوی 30/136..
– الضابط السادس: أن يكون السبب المحوج إلى المصلحة مشروعا: والمقصود بكون السبب مشروعا هو أن ينظر في الأمر الذي يحدثه الناس بحجة المصلحة، هل السبب المحوج إليه كان موجودا على وقت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان موجودا ولم يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأخذ به بعد ذلك بدعة وليس مصلحة، وإن كان السبب المحوج إليه موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ترکه النبي صلى الله عليه وسلم لمانع زال بموته فإنه يؤخذ به کما فعل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في صلاة التراويح.
وإن كان السبب المحوج إلى المصلحة ليس موجودا في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما طرأ بعد ذلك فإنه في هذه الحالة ينظر إليه من خلال نظرين:
الأول: إن كان السبب المحوج إليه تفريطنا وذنوبنا فلا يجوز استحداثه بحجة المصلحة لأنه ليس مصلحة. والعلاج في هذه الحالة أن نتدارك تفريطنا ومخالفاتنا، ونتوب إلى الله عز وجل من هذه الذنوب، التي تضطرنا إلى استحداث ما لم يكن عند سلفنا، وحينئذ لا نحتاج إلى استحداث هذه المصلحة، لأن الحاجة إليها تزول بزوال الذنوب التي أحوجتنا إليها، ومثال ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله:
(وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز، لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله عز وجل لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم)22- اقتضاء الصراط المستقیم ص104-105 ت: ناصر العقل..
الهوامش
1- مجموع الفتاوی 30/136.
2- اقتضاء الصراط المستقیم ص104-105 ت: ناصر العقل.
اقرأ أيضا
المعترضون على شرع الله .. المتذرعون بالمقاصد
المعترضون على الشريعة بحجة “الضرورات تبيح المحظورات”
المعترضون على الشريعة والاحتجاج بقواعد التيسير
المعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة والأحكام الباطلة