لم تزل هذه الأمة الكريمة تحاول التخلص من واقعها، ولم يزل المحترقون عليها من أبنائها يبحثون عن مخرج، وتلك محاولة تأمل النجاح.

أوضاع الأمة المسلمة

الحديث عن أوضاع “الأمة” يحتاج لدراسات مطولة فهي أوضاع شديدة التعقيد ومتسعة باتساع تاريخ الأمة وجغرافيتها وشعوبها، وهذا يقتضي نقل صورة عن أبرز ما يتعلق بالأمة المسلمة في جميع الأرض وما أهم صراعاتها؟

وما موقف القوى الدولية والإقليمية والمحلية منها؟ وما مساعيها نحو التمكين والنصر؟ وما أبرز مشاكلها؟ وهل تستفيد من تجاربها؟

وغير ذلك من الأسئلة الكبيرة.

بداية الابتلاءات

بدأت الابتلاءات في الصدر الأول للإسلام ولم تزل تتكرر وقتًا بعد آخر؛ ففي وقت الخلافة الراشدة قُتل الخليفة العادل عمر بن الخطاب، ثم قُتل الخليفة الصابر عثمان بن عفان وانفجرت أحداث الفتنة الكبرى، ومن بعدها اجتاح التتار والصليبيون بلاد الإسلام، وهيأ الله عز وجل للأمة من يضعها في موضع الريادة الذي طالما تبوأته.

ولكن سرعان ما يلتئم الشمل فتجتمع الأمة وتمضي لتمارس دورها في إصلاح الدنيا بالدين.

لكن هذه المرة اختلف الأمر..

ففي كل مرة ظلت ثوابت الإسلام وأصوله واضحة بينة وراسخة رسوخ الجبال ولم يحدث أبدًا أن رأى المسلمون في التتار ـ حتى في ذروة ضعف المسلمين وانتصار التتار ـ إلا أنهم همج متوحشون لا يملكون ما يملك المسلمون من منهج قويم يصلح لكل زمان ومكان، وقُل مثل هذا في الفرس عباد النار، وفي الصليبيين المتحللين من فضائل الإسلام.

أما هذه المرة فقد انحرف عن الإسلام انحرافاً واسعاً فأصبح الذوبان في الأعداء أمرًا شائعًا سواء في المنهج أو في الهيئة، وفهِم الناس أنهم يسعهم أن لا يلتزموا بأمر الله ونهيه ويبقوا مسلمين صالحين في تدين شبيه بملة النصارى.

ولكن من رحمة الله بهذه الأمة المرحومة أن يسّر لها خروج أنبل وأفضل ظاهرة في العقود الأخيرة وهي “الصحوة الإسلامية”، حيث قام أبناء الصحوة شيباً وشباناً ومجاهدين ومصلحين ومربين بمجهودات جبارة وتحمّلوا أحمالاً تنوء منها الجبال، والخير الذي أكرم الله به الأمة لا يزال وفيرًا بعد مرور ما يقارب القرن على نشأة “العمل الإسلامي الجماعي”، ثم ظهور “الصحوة المباركة” كتجديد لهذه البدايات منذ ما يقارب النصف قرن؛ عاد فيه الملايين من الشباب والفتيات والشيب والعجائز إلى هويتهم الأصلية.

وبرغم هذا تظل هذه الظاهرة العظيمة مكوّناً بشرياً يعتريه كل ما يعتري البشر؛ فكما فيها من الخير الكثير ففيها أيضاً الكثير من الخلل والإخفاق والانحراف.

أبرز هموم ومشاكل العمل الإسلامي

وأبرز هذه الهموم على مستوى السعي للتمكين، العقيدة والتصور، السلوك، الدعوة والدعاة.

على مستوى التمكين

  • أن العمل الإسلامي اليوم يعمل في الهوامش المتاحة التي تسمح بها الأوضاع المعاصرة والتي تناسب الإمكانات المتوفرة للعمل الإسلامي وهي محدودة وتضيق يوماً بعد يوم.
  • تتعرض الأمة الإسلامية ـ إضافة إلى العدوان الصليبي العالمي ـ لعدوان إقليمي من دول لها مشروعات عقائدية وسياسية واقتصادية كبيرة، وتتقاطع هذه المشروعات مع المشروع الغربي فيتفقان أحياناً ويختلفان أحياناً أخرى.

وفي مقدمة هذه المشروعات “المشروع الصهيوني” و”المشروع الرافضي الباطني”.

كما تحاول تركيا باستماتة أن تجد لها مكاناً في المعركة الوحشية الجارية، وأن تقيم مشروعها المستند على إحياء التراث العثماني والذي يلقى عداءً من كل الأطراف الدولية والإقليمية تقريباً.

على مستوى العقيدة والتصور

  • ابتليت الأمة بأمراض خطيرة حتى شاع الجهل بأصول الدين، وتميَّع الفارق بين الكفر والإيمان، وعلا صوت العلمانية والإلحاد وتبديل الدين، وفشت البدع الكبرى كالتكفير بالكبيرة والإرجاء والتصوف، وافتتن بعض الناس بدين الروافض؛ وأمثال هذه الأمراض مما يندرج تحت باب “أمراض الشبهات”.
  • كما بهت مفهوم “الولاء والبراء” وهو من أخص خصائص العقيدة ومن أبرز مقتضياتها فاصبح من الطبيعي عند بعض الإسلاميين بذل “الولاء” لأعداء الإسلام من الطغاة، و”العداء” لأتباع الملة إن اختلفوا في بعض المسائل.
  • ضعف التمسك بالإسلام كهوية وخَفُت الحديث عن “الأمة المسلمة” ككيان جامع للأمة في مقابل الروابط الجاهلية كالوطنية والقومية والعصبية القبلية والحزبية، وتحولت هموم الأمة إلى قضايا جزئية فتحولت قضية مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى “قضية فلسطينية” وأخرى “سورية” و”مصرية”.. وهلم جرًا.
  • الفهم الجزئي للدين حتى عند بعض المنتسبين إليه، ومن هذه التصورات: حصر تطبيق الشريعة في الحكم، وحصر الحكم في الحدود، دون تنبه إلى أن تطبيق الشريعة يتعلق بكل جوانب حياة المسلم والحكم واحد منها وغيابه لا يبرر ترك المتاح مما يمكن تطبيقه.

على مستوى السلوك

  • الترف والركون إلى الدنيا والغرق في الحياة الاستهلاكية.
  • انتشار الشهوات واختراقها لمجتمعات المسلمين.
  • التفريط في الحقوق الواجبة.
  • انتشار الفساد والكذب والخداع والرشوة والمحسوبية وضعف الأمانة وقلة الصدق والوفاء وضعف الهمة وتفشي الاتكالية والأنانية وغيرها من الموبقات.

على مستوى الدعوة والدعاة

  • التفرق وفساد ذات البين وتقطيع الأواصر، وعدم الاستعداد لبذل القليل لجمع الكلمة ووحدة الصف، والبغي والظلم المتبادل بين العاملين للإسلام .. وقد جاء الأمر الرباني جليًا وواضحًا بوجوب الوحدة بين المسلمين جميعًا على أساس الدين، ووجوب الجماعة والنهي عن التفرق ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران 103)، وللتفرق أسباب كثيرة من أبرزها:
  1. التربية التراكمية عبر أجيال على التحزب والولاء للجماعة بشكل مبالغ فيه، أثّر على الولاء للجماعة الأم وهي الأمة المسلمة.
  2. طلب الطاعة العمياء للقيادة بحجة وحدة الصف.
  3. غياب الشورى؛ فالشورى الحقيقية هي التي تهدف فعلاً إلى الخروج بأفضل الآراء دون إلزام من القائد للأفراد أو الأفراد للقائد.
  • الاعتماد على “رؤية واحدة” وغياب “الرؤية المتكاملة”.
    فمن اعتمدوا الإصلاح السياسي يريدون أن تسير الأمة بكاملها وراءهم مهما كانت مرارة التجارب.
    والجهاديون يريدون من الأمة بكاملها أن تتبنى تصورهم.
    ومثلهم العلميون والتربويون.
    كلهم تقريباً لا يرى الحل إلا من خلال “منظور واحد”.؛ فتسببت هذه الرؤيا المحدودة في تذكية الخلافات والصراعات البينية بين الإخوة من أبناء الصحوة دون استعداد لتفهم ما عند الآخرين وهو الخطوة الأولى لأي تعاون مثمر.
  • الإحباط واليأس الناتج عن المبالغة في تبني فكرة الاستضعاف في مقابل قوة مشاريع الأعداء.
  • اختراق جماعات العمل الإسلامي فكريًا وعمليًا سواءً كان اختراقًا حقيقيًا، أو بالتوجيه، أو بالاستدراج، ويتم عبر هذا الاختراق إجهاض أي عمل إيجابي لصالح المسلمين أو حرفه عن مساره ثم التشنيع عليه.
  • التحالف مع خصوم الإسلام، وحسن الظن بهم وموالاة أعداء الأمة كأثر للانحراف في العقيدة ومقتضياتها كـ “الولاء والبراء” أو الانحراف في التصور وعدم وضوح المفاهيم الشرعية.
  • المثالية المبالغ فيها عند البعض فإما أن تكون خلافة راشدة، أو لا يكون شيء.
  • العجلة والتسرع في قطف الثمرة التي لم تنضج مع إغفال حقيقة الواقع وحجم التحدي والمعوقات، كهرولة الحركات الإسلامية لتصدر المشهد السياسي في بلدان الربيع العربي دون إدراك كاف أن هذا القرار يعني مواجهة النظام العالمي بكل جبروته وإجرامه.
  • تفتقر مناهجنا التربوية إلى التكامل فهي على الأغلب تنتج مسلمًا صالحًا في ذاته لكنه يحمل نفس الأمراض التي يعاني منها العمل الجماعي.
  • افتقار المسلمين إلى القدوة لا سيما بعد الحصار المستمر للرموز الإسلامية وتشويه البعض الآخر وانصهار بعض المنتسبين للعلم في الترويج للطواغيت وتبني طروحاتهم.
  • توسيد الأمر لغير أهله وتقدم الصفوف بعض من يفتقدون للعلم الشرعي أو القوة اللازمة لقيادة العمل الإسلامي.
  • أثبتت الثورات العربية أن القوى الإسلامية تملك قوة هائلة من حيث “الكم” لكنها لم تمتلك بعد قوة “الكيْف” القادرة على كسر الجاهلية المعاصرة استراتيجيًا وتنفيذيًا.
  • ضعف الاستفادة من “الخبرة التراكمية” بدراسة التجارب بشكل علمي مفصل.
  • عدم التوازن في النظر للأعداء فالبعض يهون من مكرهم وعداوتهم والبعض يضخم قوتهم ويصورهم على أنهم قوة لا تُقهر.

الجهل بدين الله والحركة بمعزل عن هداية الوحيين.

جهد متكامل

ما بين جهد العلماء والمربين، وجهد العمل الجهادي والسياسي، والعمل الخيري والتربوي، والعمل الاقتصادي والاجتماعي، يحتاج المسلمون الى كل هذا الجهد والى ترشيده وتكامله.

والجماعات الخادمة لهذا الدين يجب ألا تنسى الهدف الأصلي وألا تنحرف بوصلتهم فتصبح الجماعة هدفا أو التحزب مأخذا.

بل يجب الانفتاح على الأمة بأسرها وخدمتها؛ فغياب وجودها المؤسسي والشرعي غاب كثيرا. ورجوع هذه الأمة تتكاتف قوى العالم دونه؛ لكن الله تعالى بالغ أمره، وقد جعل لكل شيء قَدْرا.

رابط البحث كاملا:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة