إن أولى مهام الشعوب اليقظة والحية هي ضرورة تحطيم هذا الصنم المسمى (الدولة الوطنية) التي رسمها لنا الاستعمار ثم نصب عليها عملاء يتداولون الحكم بالوراثة ويرثون الخيانة في جيناتهم.
صنم الدولة الوطنية
من الدروس الأساسية المستفادة من الصراع العربي الصهيوني ومن الصراع الدموي بين الشعب السوري ونظامه المجرم والحالة الليبية وحتى اللبنانية، يتضح أمر مهم وهو ضرورة تحطيم الأصنام التي تُعبد من غير الله. والمقصود بهذه الأصنام هي الدويلات الكرتونية التي صنعها الاستعمار لشعوب المنطقة وخاصة الدول العربية التي رسم لها سايكس وبيكو حدوداً بالمسطرة والقلم ونصب عليها عملاء ليشتغلوا كلاباً لحراسة مصالح الغرب الصهيوإمبريالي.
إن أولى مهام الشعوب اليقظة والحية هي ضرورة تحطيم هذا الصنم المسمى (الدولة الوطنية) التي رسمها لنا الاستعمار ثم نصب عليها عملاء يتداولون الحكم بالوراثة ويرثون الخيانة في جيناتهم.
غزة كسرت صنم الدولة الوطنية
الكل صفق لعملية السابع من أكتوبر بكونها عملاً بطوليا فقأ عين المحتل، لكنهم لا يتساءلون عن سببها وعن الموانع التي لم تمنع وقوعها، وهي موانع يعلم عنها الكيان أكثر من شعوب المنطقة. إن السابع من أكتوبر وقبله الكثير من العمليات الحربية والعسكرية ضد الكيان ما كان لها أن تقع لولا الغياب التام للصنم عند أهل غزة، فلو كانت دويلة عباس مثل باقي الأصنام العربية في القوة والبطش لما تُرك هامش الحرية للاجتماع على درس في مسجد؛ فما بالك بتصنيع الصواريخ وإرسالها إلى عاصمة الكيان؟
لكن كما يعلم الجميع غزة مستقلة عن عباس “وسَلَطَتِهِ” منذ سنوات.
حالة غزة وفلسطين
إن حالة المقاومة في غزة ما كانت لتكون لو كانت هناك دولة وطنية قوية مثل باقي الزرائب التي تُعد دولاً عربية أو حتى إسلامية، إن حالة الإنبات والنمو والنضج الذي وصلته المقاومة في غزة ما كان ليحدث لولا الفراغ الكبير وهامش الحرية الناتج عن غياب صنم الدولة المتغولة بأجهزتها القمعية والإرهابية التي تسمى أمنية والتي تئد كل حركة نحو التحرر، لكن يجب التأكيد على أن الصنم كان موجوداً في غزة لكن الأسود حطموه وفتتوه عبر نوعين من العمليات:
أولهما: التنظيم المحكم والتواصل ونقل الخبرات بين الأجيال عبر الإعداد العقدي والبدني والمادي.
ثانياً: الدخول في الانتخابات وإحراج الخصوم العملاء للكيان.
هذه المحطات المتضافرة كسرت صنم الدولة الوطنية التي رسمها الغرب الصهيوإمبريالي أفقاً صعب المنال للشعب الفلسطيني المهجر.
وبذلك انتقل الشعب الفلسطيني في غزة من خانة المفعول به التي لا تزال باقي الشعوب العربية وغير العربية تتخبط فيها، إلى خانة الشعب اليقظ والفاعل في التاريخ والجغرافيا. فأسس ورش التصنيع الخاصة بالأسلحة، وقبل ذلك أسس حِلَق الذِّكر التي تصنع وتبني الأسود والأبطال الذين سيحملون لاحقاً تلك الأسلحة والعتاد لمقارعة العدو.
إن تحرر الشعب الفلسطيني في غزة من سطوة الدولة الصنمية التي تُعْبَد من غير الله والتي قادتها (فتح) مع عرفات وبعد عباس، جعلت الفلسطيني الذي يقطن القطاع مختلف تماماً عن الفلسطيني الذي يعيش في الضفة الغربية، فالأول متحرر وله القدرة على التفكير والنشاط والدب والحركة، بينما تئد أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة كل شخص يتحرك في ذلك الاتجاه لمقاومة العدو، تحت شعار “التنسيق الأمني” مع الكيان. وما وقع للمهندسين عياش وعبد الله البرغوثي إلا أمثلة حية تكررت مئات المرات بل وأكثر، أمثلة تؤكد لمن له عقل أن هؤلاء الأوغاد الذين يحكموننا =منهم. أي: من أولئك. وأنهم سماعون لهم وأنهم كلاب حراسة لهم.
إن تحطيم الصنم لا يحدث فجأة بل هو عملية تاريخية في تطور المجتمعات والأمم؛ فالحاضنة الشعبية لكي تقتنع بالطرح المقاوم يجب أن تجرب الطرح الخائن وتكتوي به وتتذوق ويلاته وتعرف خطورته على الأمة والعقيدة ومصالح الناس الدنيوية والأخروية. فالإنسان لا يتعلم جيداً إلا من خلال الممارسة والتجريب العملي للأشياء.
قد لا يرغب الجميع في تحطيم صنم الدولة الوطنية باعتبارها مكسباً أولياً يجب فقط تشذيبه وقطع نتوءات الفساد على جوانبه لتحويله إلى حجر صالح للبناء، بل وقد يكون حجر الزاوية لو رزقنا الله بشبكة من الحكماء في جسم الدولة/الصنم، لكن هيهات.. فسنن التاريخ تثبت لنا أن عملية تشذيب الصنم والبناء عليه أمر ليس بالهين؛ فالتغول والتأله الذي وصلت له الدويلات الكرتونية وفساد وإفساد حكامها وغرورهم بجبروت آلتهم القمعية، جعلتهم قادرين على الاستماع عبر الجدران وسحق كل قوى الخير التي ترغب في التغير الهادئ عبر تشذيب الصنم فقط عوض تحطيمه، فالله أعمى بصائرهم عن الحق الواضح الأبلج فهم لا يقبلون النصح ولا يسمعون إلا لأسيادهم في لندن وواشنطن وباريس وخصوصا تل أبيب.
حالة سوريا
مع انطلاق شرارة الربيع العربي الذي أسقط الكثير من عملاء الاستخراب العالمي بأكثر من بلد عربي، لم يكن الشعب السوري ليغيب عن هذا الحدث الجلل الذي هز سكون الدويلات الكرتونية التي صنعها سايكس وبيكو، “جاك الدور يا دكتور”، هكذا نطقت المظاهرات ضد نظام بشار لدفعه للتنحي لكنه اختار الالتصاق بالكرسي وجاء بالمليشيات الإيرانية والأفغانية وغيرها واستقدم الجيش الروسي الذي دك مدن الشام بالقنابل فكان ما كان.
إلا أن رحمة ربك أكبر، فالمقاومة وإن تآمر عليها العالم بأكمله وأفشلتها أمريكا بأموال الخليج لأنهم جميعا يدركون الحقيقة القوية التالية: “إن أي تحرر للشعب السوري يساوي تخريب الكيان وباقي الدويلات الكرتونية” التي يحكمها كلاب الاستعمار ويستأثر الغرب بثرواتها الغنية، بقي جيب بالشمال الغربي لسوريا يأوي ملايين البشر الذين هُجروا من ديارهم وكأن بشار يطرد شعبه المتمرد ويستبدله بعصائب من العراق والأفغان والإيرانيين.
إن التعفن الذي شهده الوضع في سوريا نتيجة لحرب النظام على الشعب السوري الأعزل وتكالب التدخلات الخارجية التي سعت لإفشال الثورة، أسهم بحسم في تفتيت الصنم ودفع الشعب السوري للتجريب؛ فهذا الوضع أضعف الدولة الصنمية البعثية وأصبح الناس قادرين على التحرك والتعاون والتنظيم والتكتل في تنظيمات جديدة محلية الإنبات والجينات سميها ما شئت فقد شوههم العالم بأسره، بدأ الشعب في تجريب أساليب جديدة في إدارة شؤونه وتنظيم نفسه لمواجهة البراميل المتفجرة، أعادت هذه المحنة المنحة الوئام والأخوّة للمسلمين السوريين، ونصحهم التركي وساعدهم على إعادة تنظيم أنفسهم بما يخدم مصالحهم ضد النظام الذي استقدم الاحتلال الإيراني والروسي.
إن تحريك المياه الراكدة عبر ثورات الربيع العربي، والتحرر النسبي للشعب السوري على الأقل في الجيوب الشمالية الغربية جعلهم أكثر تنظيماً وأكثر فهماً للعالم، وأقدر على الانتقال من وضعية المفعول به إلى وضعية الفاعل لتحقيق التحول التاريخي نحو التحرر الشامل لكامل الجغرافيا السورية. حتى الروس أنفسهم وبعد سنوات من دك مدن الشام بسلاح الطيران أدركوا أخيراً أن حربهم على السوريين خاسرة لا محالة فما كان لهم إلا المناورة ضد بشار وتيسير عودة الفصائل الشمالية لمقارعة العدو وبضغط طبعاً من الأتراك ليعود عدد مهم من السوريين من تركيا لبلدهم، لأن التنظيمات الصهيوأمريكية بتركيا تستغل وجودهم لشن حملات شرسة ومنحطة من العنصرية لإضعاف الحكام الحاليين هناك. فالروس يبحثون عن مصالحهم فقط ويفهمون حاجات حليفهم التركي وحتى مصالحهم الجيوسياسية في الجغرافيا السورية. إن فهم التشابكات بين كل هذه العناصر هو أكبر مفسر لما يقع حاليا بسوريا.
إن تحرر سوريا سيجعل الكيان الغاصب ضعيفاً ومهلهلاً وستقتحم حدوده حتماً نصرة لأهل فلسطين، ثم إن تحركات الحكام العرب الصهاينة عملاء الأمريكان كانت قد شرعت في التمهيد لتحالف للحفاظ على زميلهم بشار شريكهم في العمالة وإذلال الشعب، بحيث يحتمل حتى إرسال قوات عربية نيابة عن (إسرائيل) لحماية حدودها الشمالية الشرقية ولتأديب الشعب السوري الذي تجرأ على التحرر!
حالة ليبيا
مع إسقاط نظام القذافي وانتصار فيالق الثوار بدعم من الناتو (قدر من ربك وإن كان الناتو يمني النفس بحاكم كلب يخدم مصالحه) ومع تفكك عرى الجماهيرية الصنم العجيب، بدأ الصراع مجدداً بين من كان ولا يزال يريد التحرر من هيمنة الغرب الصهيوإمبريالي ومن كان ولا يزال يرغب ويمني النفس بأمجاد سلطوية على منهاج النظام السابق. هنا يظهر الخونة وعلى رأسهم (حفتر) جنرال من العصر القذافي الأول وحامل الجنسية الأمريكية وورقتهم الأولى لمحاولة إعادة الشعب الليبي لحظيرة الطاعة للاستعمار الغربي.
وإن تمرد حفتر لاحقاً عن الأمريكيين فأصبح ألعوبة في يد الروس، وهذا يدل على الهوى المنطبع في حركته، أي الولاء للأجنبي والانبطاح له مقابل التفرعن والتغول على المواطن الليبي البسيط الذي يريد التحرر.
إن التحولات والصراعات التي شهدتها ليبيا منذ انطلاق ثورة السابع عشر من فبراير إلى اليوم أسهم بحسم في تهشيم الصنم وتنفس المجتمع الصعداء، وإن طغت عليه القبلية وضعف التنظيم، إلا أن انتشار السلاح والناصح التركي سرعان ما ساعدا في تأمين الزاوية الشمالية الغربية حول العاصمة طرابلس أمام زحف حفتر المدعوم من كل الأمم والدول في إطار مهمته المقدسة لإعادة الشعب الليبي لزريبة الطاعة.
حالة لبنان
من الأمثلة الأخرى على أهمية تحطيم الصنم يمكن أن أقدم لبنان، رغم أن حالته خاصة جدا ولا تقارن البتة بحالة غزة أو سوريا أو ليبيا… إلخ، إلا أنها تؤكد الفرضية الأولى وهي العلاقة بين ضعف الصنم وحرية الشعوب وحركتها نحو الأمام في العملية التاريخية للتحرر.
فبلاد الأرز -إن بقي منه شيء على جبل لبنان- تبقى أرضاً لملوك الطوائف وجنرالات وأمراء الحرب بالنظر للتعقيد العرقي والإثني والديني بدولة لبنان، هذا الأمر جعلها موضعاً للتفاهمات وعقد الصفقات والتوافقات بين مختلف الأطراف، كل هذا يعطي هامش حرية وحركة للفعل المقاوم الذي بدأه الشعب الفلسطيني المهجر، ثم استمر لاحقاً مع أبناء لبنان عندما احتل العدو جنوب البلاد.
صحيح أن طوائف بأكملها كانت تتحالف مع الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين وضد باقي اللبنانيين إلا أن ذلك لم ينفعهم، وصحيح أيضاً البعد التام لعقائد حزب الله عن العقيدة الإسلامية؛ فكل همهم تشكيلهم العصابي الذي أجرم في حق الشعب السوري وولغ في دماء أبناء الشام كثيراً، وغايتنا من تقديم هذا النموذج اللبناني في التحرر وخطورة الصنم القوي، هو إبراز طبيعة العلاقة بين الظاهرة المقاومة ووجود بلد بنظام دولة وطنية مهلهلة أو في طور الانتقال من أنظمة عميلة تمارس البغاء مع الاستعمار الغربي، إلى دول وأنظمة تحركها شعوب المنطقة ونبضها القوي سواء وافق شرع الله أم لا، نحن نتحدث هنا عن السنن التاريخية.
سنة ستتكرر
أؤكد لكم أن الأمر سيستمر وسيتكرر وسيتعزز وسينتشر، لأنه سنة التغير التاريخي الطبيعية على الأرض. والأوغاد حكام العرب سيذهبون لمزبلة التاريخ، هم وكل من يسير في ركبهم بمطبعيهم ومُمَانِعيهم؛ فليس فيهم أحد جيد لتراهن عليه.
بناء على هذه التجارب والوقائع يتضح جلياً المسار الذي ستسير عليه الأحداث، ألا وهو عبارة عن هبات شعبية وانتفاضات ضد الأنظمة الوظيفية العميلة للاستعمار أو التي تتبنى إيديولوجيات الغرب المجرم، أو حتى شخصيات مرضية تهيمن على هذا البلد أو ذاك. أكيد ومؤكد أن هذا سينتقل لجميع الدول العربية الأخرى وأن اللحظة التاريخية قد بدأت والتغيير السنني ذاهب في مساره.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر
مجلة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، رضوان كسابي – كاتب مغربي.