أول ما يريد الشيطان من الإنسان أن يشرك، ويتخذ الشرك صورا متعددة، والحديث منها ـ كالوطنية ـ يخدع ببريقه، بل ويفتت الأمة، فمن ينتبه..؟!

مقدمة

هذه “المقالات” ليست موجهةً إلى الذين أُشربوا في قلوبهم “العجل!”، عِجل الانتماء إلى الأرض والمصالح المادية المنبثقة عنها. ولا للمشركين الذين يعيشون في أوهام المزاوجة بين ثوابت “الإسلام”، ولوازم “الانتماء إلى الأرض” بمسمى “الوطنية”. ولا للذين لا يزالون مؤمنين بأن “الوطنية” لها خصوصية أو استثناء تجعلها رديفاً للإسلام، أو شريكاً “مقبولاً!” للتوحيد.

كما لا يكاد  يوجد في هذا العصر “طاغوت” يُجمع الناس على عبادته واحترامه مثل “الوطنية”.

و أصبح كثير من المسلمين اليوم ـ على اختلاف مشاربهم ـ يُجمعون على عبادة “الوطن” باسم “الوطنية”، سواء أكانوا “إسلاميين!” أم ليبراليين علمانيين أو شيوعيين هذا فضلاً عن “العامّة”.

كذلك كثير من الدعاة والمشايخ ..!

الوطنية .. لماذا نكفر بها ونرفضها

قد يظن الكثير أن “الوطنية” ذلك المصطلح الجميل البسيط الذي يَنسِب الإنسان إلى موطنه الذي وُلد فيه أو نشأ في ظلاله، وتربى على أرضه وتحت سمائه! .. لكن الأمر ليس كذلك إطلاقاً.

إن “الوطنية” وإن صُكّت من مفهوم “الوطن”؛ إلا أنها نُحتت وفق معتقداتٍ وثنية خالصة، تعود جذورها إلى “أَثِنا” الإغريقية الوثنية، اليونانية، على وجه الخصوص.

“الوطنية” مصطلح قائم على ابتزاز المشاعر البريئة المرتبطة بالحبّ الفِطري لموطن الإنسان الذي ولد فيه أو المكان الذي تربى في ظلاله، وتحويل هذه المشاعر إلى أجندات “أيديولوجية”..!

إنها مصطلح يقوم على استجلاب المصالح الأرضية وتحقيق المكاسب المادية العائدة منها؛ على حساب الدين الخالص.

“الوطنية” ابتدعت مفهوماً زائفاً للدين، ورؤيةً مضللةً؛ تقوم على أسس ليبرالية “علمانية” تحتضن بعض الأطر الشكلية السطحية للإسلام! لتظهرها على أنها الإسلام الحقيقي.

وتحاول إبراز هذه “الرؤية!” الجديدة للإسلام بصورة براقة لمّاعة تُغري بها العامة وتصرفهم بها عن جوهر الدين الحق، لتحوله من دين سماوي إلهي، إلى دين “براجماتي”..! يتمحور حول تحقيق المصالح السياسية والأرضية، على حساب دين الأمة و ثوابتها.

إنها “أيدلوجيا” أنشأتها دهاقنة المال والسياسة بعد الثورة الفرنسية.. ثم عمّموها في الأرض كلها بُعيْد الحرب “الرومية” العالمية الأولى، ثم تبنتها حكوماتهم تحت مظلة هيئة الأمم “المتحدة”!

ثم فرضها السياسيون على العالم العربي وفق مشروع (سازانوف ـ سايكس ـ بيكو).

“الوطنية” تحتّم الانتماء للأرض، والولاء “للوطن” وحده لا شريك معه! أو ربما بمشاركة “الدين” لا كعبودية لله، ولا كمنهج حياة يُعبد به في الأرض، وإنما كتراث أو قيم أخلاقية أو هوية تاريخية.

“الوطنية” تذيب ثوابت الدين، وتُلغى لوازم العقيدة وتُزيل سِمة تمايز المسلمين عن غيرهم.

فهي تجعل انتماء الدين وأخوّة المنهج، ورباط العقيدة؛ يأتيان في مرتبة متأخرة، بعد انتماء ورباط الوطنية، أو ربما لا يأتيان في الحسبان مطلقاً..! حيث تعمل على  توظيف الإسلام لتحقيق مكاسب سياسية وجغرافية، وعلى استبدال الولاء للوطنية ولوازمها بالولاء للدين ولوازمه، ﴿الذي هو أدني بالذي هو خير﴾؛ لتقلب كل ثوابت الأمة وموازينها..!

على هذه الأسس وما استُنسِل منها قامت “الوطنية”؛ فحدَّدت ركائز نهضة الأمة، ورتبت الاهتمامات في سلم أولوياتها، وعليها ثمّنت الأفراد والقبائل، ومنحت “الجنسية”.

وعلى هذه الأسس قامت الخطط وبُنيت الولاءات، ومُيز الأصدقاء من الأعداء، وأقيم “الأمن..!”

ولا يُعلم أنّ دولة “وطنية” ما تبّنت “الإسلام” في أيٍّ من وزاراتها السيادية، أو أدخلته يوماً في ثوابتها السياسية، أو تبنته في عقيدة جيشها، أو رفعت علم الجهاد يوماً ما.. أبداً!

الدولة “الوطنية” تقوم على مبدأ السيادة على الجغرافيا، وتبنّي المصالح الأرضية المنبثقة عنها؛ لتوفير الأمن والرفاه و”السعادة” لمواطنيها.. أيْ على قِيم “الرعي” (الأرض والسياج  والكلأ)..!

لذا نقول؛ إن الدولة “الوطنية” يمكن أن تكون دولة “وطنية” نصرانية، أو “بوذية” أو كونفوشيوسية أو شيوعية أو هندوكية .. الخ، لكنها لا يمكن أن تكون إسلامية بحال.

[للمزيد: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة]

“الوطن” وفق أنموذج الدولة “الغربي” المعاصر

هو مصطلح أيديولوجي؛ تذوب فيه ثوابت الدين، وتلغى فيه لوازم العقيدة؛ لا يقيم اعتبارا لأخوّة الدين، ولا لروابط العقيدة التي أثبتها الإسلام وسمَا بها فوق روابط الأرض والتراب، وحارب من أجلها الجاهلية، وعادى من أجلها الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم.

على هذا؛ فمفهوم “الوطن” في “الدولة الوطنية” لا يُقصد به مجرد “موطن” الولادة أو النشأة..! ولا ما هو معلوم في التاريخ الإسلامي أو العربي ولا ما تعارف عليه الناس في التاريخ البشري كله..!

بل هو مصطلح “مركّب ومعقّد! هلامي مطاطي، يجمع بين الجغرافي والتاريخي والديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والثقافي واليوناني الإغريقي، لدرجة أنه لا يشابه مثيله الإسلامي في شيء..! ولا يَجمع بينه وبين المفهوم اللغوي والإسلامي للوطن إلا الاسم فقط؛ فلا يغترّ أحد بمصطلح “الوطن” المعاصر.

ثم جعل العلمانيون” من مفهومهم ـ هذا ـ للوطن التصور الممكن والوحيد لقيام أيّ “دولة” عصرية حديثة..! (أيْ: دولة “وطنية”).

فالوطنية إذن؛ هي مفهوم أيديولوجي ينبثق من هذا المفهوم “الحديث” لمسمى “الوطن”؛ بُني لصالح أجندات سياسية، واقتصادية؛ تتماهى مع تاريخ “الغرب” الوثني المادي، وترتبط بأهداف مشروع نظام عالمي جديد، تحت سقف ما يسمى بـ “منظمة الأمم المتحدة”، وتتناقض مع مفهوم الإسلام للوطن.. بالكلية.

العلمانيون المحليون، والوطنية

وثب العلمانيون الليبراليون “من بني جلدتنا” ـ بتحريض من “الغرب” وتمكين من السياسيين ـ على مصطلح “الوطنية” من كل حدب وصوب؛ وبكل كَلَب وشراسة.

وثبوا على المناصب القيادية، ومنابر التوجيه فسيطروا عليها، وعلى وسائل الإعلام كلها فاحتكروها.

توجهوا إلى “الوطنية” فألبسوها ثياب الإسلام، وحلّوها بأردية الوِحدة والولاء، وكسَوها أثواب التقدم والحضارة، وزينوها بمطالب النخب “المثقفة!”؛ ومنحوا أنفسهم حق الوصاية على الأمة..!!

وصيّروها من المطالب الحقوقية، أو القوانين الدولية التي تُفرض على الأمم والأديان.

ودلّسوا حقيقة “الوطنية” على الناس فجعلوها وحدها دون غيرها أساساً لقيام “الدولة”..!

وأشاعوا أنه لا يمكن قيام أي دولة حديثة بدون شروطها المعيارية وقيَمها “النموذجية”!، وصوّروا الدولة “الإسلامية” على أنها دولة “ثيوقراطية” تقوم على حكم الكهنوت ولا يمكن أن تكون دولة نظام، ولا قانون، ولا دولة مؤسسات..!

فدولة النظام والمؤسسات حكرٌ على الدولة “العلمانية” “المدنية” “الوطنية”.. فقط! وهي الوسيلة الوحيدة للوحدة، ولتثبيت الحكم وإشاعة الأمن، ودعم الاستقرار في المجتمع!

مصطلحات متعددة تؤدي الى العلمانية

إن المصطلحات الرائجة اليوم؛ مثل: “الوطنية” .. “المدنية” .. “القومية” .. “القُطرية” التي تضاف لكلمة “الدولة”.. كلها مصطلحات مترادفة بمعنى واحد، وحقيقة الجميع واحدة؛ إنها “العلمانية”. على الرغم من مغالطة أو شغب بعض المنظّرين الليبراليين العلمانيين “العرب”، وغيرهم؛ حيث تستخدم هذه التباينات اللفظية للتلاعب بعقول أبناء المسلمين الجاهلين بحقيقة العلمانية.

والنخب تُطلِق هذه المصطلحات المترادفة: تميزاً للدولة الوطنية عما تسميه هي بـ: “الدولة الدينية” أو “الثيوقراطية”..! والتي تزعم أنّ “رجال الدين” أو “طبقة الكهنوت” فيها هم من يتولى سنّ التشريعات للأمة.. الى آخر هذا “الهراء” الذي لا يوجد منه شيء في الإسلام.

لقد وصل نفاق النخب “العلمانية” إلى حدٍّ لم يسبق له مثيل..! لقد نافقوا الحكام والسياسيين، وأوهموهم أنهم صدّقوا “كِذبتهم” أكثر منهم..!

واندفعوا في تضخيم محاسن “الوطنية” لهم وللأمة، وعدّدوا فضائلها، وتغنّوا بمحاسنها، وزاوَدوا في الحماسة لها أكثر من السياسيين ومن الروم أنفسهم..! وصوّروا الأمر للأمة أنّ “دولتهم” ما لم تَظهر للعالم في صورة دولة مدنية “وطنية” فهي لم تدخل التاريخ بعد..! ويعدُّ شعبها همجيا متخلفاً، متأخرا، ويعيش مرحلة (ما قبل الدولة الحديثة)! وستكون دولة غير مرحب بها ولا مقبولة! عند العالَم المتقدم! المتحضّر!

وكل من يعارض “الوطنية” فهو متّهم إما في عقله أو في دينه أو ولائه، يجب أن يحارب أو يؤدب.

هكذا يعمل السحرة والكهنة خُفية وعلناً في بلاط السياسيين دائماً.

[للمزيد: هويّة الأمة الإسلامية]

خاتمة

ثمة خطورة عقدية شديدة في المفهوم الحديث المقصود مصطلح “الوطن” و”الوطنية”، كما تبدو خطورة سياسية على أمة تقبل التفتيت والذوبان، وتقبل محو تاريخها المميز الذي مارست الإسلام به بحسب جهدها البشري.

لقد كان العدو شرسا في فرض هذا النموذج لأنه يمثل له انتصارا حقيقيا بتواري مفهوم “الأمة”، أو على الأقل تراجعه في نفوس أبنائه وفي واقعهم كذلك.

اقرأ أيضا

التعليقات غير متاحة