الانحراف الخلقي بين المسلمين واقع مشاهَد، لكن انحراف المفاهيم أسبق وأخطر، ومن المفاهيم ما يفرّق الأمة ويُشظيها. ولذلك ينبغي الحذر.

مقدمة

يشد أنظارَ الناظرين ـ نظرةً سريعة ـ الانحرافُ في الجانب الخلُقي الطافح في مجالات عديدة في مجتمعات المسلمين، لكن يغفلون عن أصول الانحراف وأسبابه، وغالبها “انحراف مفاهيم” تحتاج الى التصحيح أولا ليُبنى عليها الخطاب الخلُقي والتصحيح في بقية نواحي حياة مجتمعاتنا.

وهذا المقال يضرب مثالا على أحد هذه الانحرافات في المفاهيم بما تستلزمه من ولاء الكافرين، وتفريق المسلمين وتشظي الأمة..

وهي انحرافات يجب التنبه اليها والتنبيه الدائم للأمة حيث أن تكرارها، مع حواشي “الأغاني” و”الأناشيد” و”الأشعار” و”الهتافات” حولها من الأنظمة العلمانية، تحاول إشباعها للنفوس وكأنها حق لا مرية فيه ولا يقبل الشك ولا المراجعة بل ولا الضبط العقدي..!

انحراف الأخلاق .. وخلل العقائد

إنَّ كثيرًا من الدعاة المخلصين أنفسهم ليظنون أن ما أصاب المسلمين قد أصابهم بسبب انحراف سلوكهم عن الصورة الإسلامية الصحيحة.

وانحراف المسلمين في سلوكهم أمر أوضح من أن يشار إليه.

“.. فإنَّ ما تفشى في حياتهم من الكذب والغش والنفاق، والضعف والجبن والاستخذاء والبدع والمعاصي، وما صار إليه الشباب من تفلت وتحلّل. وما صار الناس إليه من تبلد على الفجور والمنكر.. وعشرات غيرها من الصفات والأعمال؛ كلها ليست من الإسلام في شيء؛ بينما هي الواقع الذي يعيشه المسلمون.

ومع ذلك فليس الانحراف السلوكي هو الانحراف الوحيد في حياة أولئك المسلمين، ولا هو الانحراف الأخطر في حياتهم …” (1مفاهيم يجب أن تصحح. محمد قطب)

مفهوم “الوطنية” .. والعقيدة

إنَّ انحراف المفاهيم لدى المسلمين اليوم هو أخطر انحراف يواجههم، فعلى سبيل المثال معنى «الوطنية» ونحن هنا لا نتحدث عن الوطنية من زاوية حبِّ الوطن “الجبلِّي الطبيعي”، فإنَّ النفس البشرية مجبولة على حبِّ الأرض التي نشأت فيها وترعرعت فيها..

ولكن نتحدث عن “الوطنية” كمبدأ له أصوله النظرية، وتطبيقاته العملية، وهو المبدأ السائد اليوم والمقبول في الأرض فيما يسمى بـ “الدولة المدنية”.

وهو يعني أن أبناء الوطن الواحد لهم حقوق متساوية، وعليهم واجبات متساوية بغض النظر عن ديانتهم وعقائدهم، وهم يد واحدةٌ على من سواهم من الأوطان الأخرى، فقد يواجه المسلم مع إخوانه في الوطنية الذين قد يكونون يهودًا، أو مسيحيين، أو علمانيين، أخاه المسلم الاخر في وطن آخر، ويعاديه ويقاتله من أجل دنيا أو ثروة أو بضعة كيلومترات حدودية؛ فينشأ عن ذلك اقتتال بين المسلمين واستباحة لأموالهم وأعراضهم ودمائهم..

وثنية جديدة

ولا شكَّ أنَّ الوطنية بهذا المفهوم هي نوع من الوثنية والجاهلية المعاصرة، وهي مناقضة للإسلام تمامًا، وإذا كانت الأصنام قديمًا من الأحجار والأشجار؛ فهي اليوم مبادئ تُتبع مثل الإنسانية، والقومية، والعلمانية، والديمقراطية؛ قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾ (الفرقان:43)، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية :18).

عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها، فإنها منتنة». (2رواه البخاري (4905)، ومسلم (2584))

هذا مع أنَّ اسم “المهاجرين” و”الأنصار” محبوب لله ورسوله، ومع ذلك لما استُخدما في العصبية الجاهلية، والتفريق بين المسلمين، والعداوة؛ اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من دعوى الجاهلية.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهنِ أبيهِ ولا تكنوا». (3رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة (269)) أي قولوا : عضَّ أَيرَ أبيك.

ودعوى الجاهلية: كـ “قيس” و”يمن” أي: الذي يدعوا للتعصب للقبائل، أو للمناطق، أو للدول، أو للوطن، فلا يكون الاجتماع في الإسلام والعصبية على أساس “الجنس”، أو “اللون”، أو “الحدود”، التي فرضها الأعداء كاتفاقية “سايكس بيكو”؛ وإنما الاجتماع في الإسلام على أساس “الدين” و”التقوى”، ﴿إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾؛ وعليه فالاحتفال بـ “الأعياد الوطنية” هو ضرب من الاحتفالات بالجاهلية والأصنام المعاصرة.

خاتمة

ليست المشكلة في الاحتفال بالأعياد الوطنية وحسْب؛ فإنما هي ظاهرة من ظواهر عديدة لها دلالتها على الخلل الأساس في زحزحة محور الولاء والاستقطاب والتجمع، ليكون “الوطن” بدلا من الاسلام.

وعليه؛ فتتمزق الأمة الواحدة، التي جمعها الاسلام عبر القرون منذ نشأتها الى حين نشوء العلمانية بنعراتها القومية ثم الوطنية.

ثم يترتب على ذلك ولاء الكافرين؛ فجمع الأمر بين ناقضين من نواقض التوحيد: التولي بغير ولاية الاسلام، ومظاهرة الكافرين.

ولا انعتاق للأمة من التبعية أو الضعف أو التخلف إلا بحسم الهوية، ولا عودة لها الى قوتها وعزها إلا بالانتماء للاسلام وتفعيل هذا الانتماء وتقديمه على ما سواه.

والاسلام هو الهوية التي تفرضها العقيدة والتوحيد، وتفرضها الفطرة والتاريخ.

………………………………..

الهوامش:

  1. مفاهيم يجب أن تصحح. محمد قطب.
  2. رواه البخاري (4905)، ومسلم (2584).
  3. رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة (269).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة