إن معرفة الوسائل الجالبة للصدق لا تكفي وحدها لجلب الصدق مالم يصاحبها الصدق في طلب الصدق، فمتی علم الله سبحانه صدق عبده في التوجه إليه هداه لذلك .
بعض الوسائل الجالبة للصدق
– توحيد الله عز وجل وصحة المعتقد
إن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة هو الغاية التي خلقنا الله من أجلها، وهو أول واجب على المكلف، وإن تحقيق التوحيد وتصحيح المعتقد هو الذي يجلب الصدق والإخلاص للعبد، فكلما تحقق التوحيد منه ظهر الصدق في حياته جليا واضحا؛ لأن أكثر ما يوقع المرء في الكذب والنفاق هو الخوف من المخلوق أو الطمع فيما عنده. وبمعنى آخر: هو التعلق بغير الله عز وجل رغبة ورهبة . فإذا صح التوحيد وتعلق العبد بالله وحده في كل أموره؛ فإن مظاهر الكذب والنفاق تختفي من حياته لأنه قد وجه وجهه لله وحده خوفا ومحبة ورجاء وتعظيما.
وإن حقيقة التوحيد لا توجد إلا بأن يعرف العبد ربه حق المعرفة بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، كما عرفنا هو سبحانه بنفسه وعرفه رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا كما عرفه أهل الأهواء والبدع، وبالتالي يذعن بقلبه وقالبه لربه فيمتلئ القلب بالمحبة والإجلال والخضوع والإخلاص والصدق وبقية أعمال القلوب، ويظهر مصداق ذلك على استسلام الجوارح وانقيادها لطاعة الله عز وجل؛ وبذلك يتوزع الصدق على قلبه ولسانه وجوارحه.
وإن معرفة الله عز وجل وتوحيده لابد لها من العلم الشرعي والفقه الصحيح لهذا الدين ؛ حتى تتم عبادة الله عز وجل على بصيرة واتباع لا على عماية وابتداع ، ومن هنا نقول أيضا: إن العلم الشرعي وسيلة هامة من الوسائل الجالبة للصدق.
– الإيمان باليوم الآخر واليقين بلقاء الله عز وجل
إن المؤمن حقا باليوم الآخر وبالحساب والجزاء وبالجنة والنار لا تراه إلا صادقا في جميع أموره، وإن حصل منه كبوة فسرعان ما يقلع عنها بالتوبة والاستغفار ؛ لأن من أيقن بالوقوف بين يدي ربه عز وجل والإحصاء الدقيق لكل أقواله وأعماله وأحواله وعرضها على الله عز وجل يوم القيامة ، سوف يكون حذرا في الدنيا وسوف تنصبغ حياته بالصدق؛ لأنه يوقن أنه لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق، قال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: 119] .
إن الإيمان باليوم الآخر وملاقاة الله عز وجل هو الذي دفع المؤمنين لطاعة ربهم، وهو الذي دفع المجاهدين في سبيل الله عز وجل ليبذلوا أنفسهم وأموالهم رخيصة لربهم عز وجل، ولولا صدق هذا الإيمان لما كانت هذه التضحيات وهذه البطولات الصادقة، قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 44 -45].
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالی:
(وهذه هي القاعدة التي لا تخطىء. فالذين يؤمنون بالله ، ويعتقدون بيوم الجزاء ، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ ولا يتلکأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح ؛ بل يسارعون إليها خفافا وثقالا كما أمرهم الله، طاعة لأمره، ويقينا بلقائه ، وثقة بجزائه، وابتغاء لرضاه ، وإنهم ليتطوعون تطوعا فلا يحتاجون إلى من يستحثهم، فضلا عن الإذن لهم، إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير، لعل عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها، وهم يرتابون فيها ويترددون.
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق، أو الذي يعرفها ويتنكببها اتقاء لمتاعب الطريق!)1(1) في ظلال القرآن: سورة التوبة 44-45. .
– التخفف من الدنيا وعدم الركون إليها
إن التجاني عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله، كل هذا من الوسائل المهمة في إنشاء الصدق في حياة المسلم والعكس صحيح ؛ فالانغماس في ملذات الدنيا وترفها والركون إليها ينتج عنه غفلة عن الآخرة وينشأ عنه تشتت القلب في أوديتها وإعمال الفكر للاستزادة منها والخوف على فواتها، وهنا يضعف الصدق لشحن القلب بها. كما أن ضعف الصدق ينشأ أيضا من مظاهر الكذب والتدليس والطمع والجشع والمعاملات المحرمة والتي قل من يسلم منها من أهل الدنيا، وخاصة في واقعنا المعاصر والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات والكذب والغش والجشع.
– مصاحبة الصادقين
إن في صحبة الصادقين من المؤمنين نفعا عظيما لمن صاحبهم وخالطهم وهذا شيء معروف ومجرب ؛ فالإنسان تؤثر فيه البيئة التي يعيش فيها والخلطاء الذين يخالطهم. وهذا هو ما يسميه المربون وعلماء النفس التربية بالقدوة؛ لأن رؤية القدرات الصادقة لابد أن تؤثر فيمن صاحبهم – إذا كان أهلا للخير – ، والعكس صحيح فصحبة المنافقين والكذابين والدجالين لابد أن تظهر صفاتهم على من صاحبهم. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، فالكون مع الصادقين طريق إلى الصدق والاتصاف بصفاتهم والتحلي بأخلاقهم.
كما يدخل في هذه الوسيلة الإكثار من قراءة سير الصالحين الصادقين من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ فإن في ذلك تربية بالقدوة والسير على آثارهم.
– النظر في عاقبة الصدق
إنه يكفي لجلب الصدق والتخلق به أن ننظر في عاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تحصل منه البركة والنماء في الأموال كما قال صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما»2(2) متفق عليه . ، كما أن فيه النجاة من مضایق الدنيا وشدائدها كما في حديث الثلاثة أصحاب الغار، كما أن فيه کسب محبة الناس وتقديرهم، وغير هذا كثير في الدنيا.
أما في الآخرة فيكفي أن نعلم أنه لا ينفع من الأعمال والأقوال عند الله عز وجل يوم القيامة إلا ما كان فيه الصدق والإخلاص، وأما ما سوى ذلك فيذهب أدراج الرياح ولا يكون حظ صاحبه منه إلا التعب والسهر. قال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة : 119]، وقال عز وجل: ﴿لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب: 24]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والمقصود أن من أعظم الوسائل الجالبة للصدق هو استشعار هذا الأمر ، وتحري الصدق في كل الأحوال حتى يربح العبد ثواب الله عز وجل، ويحرص أشد الحرص على تجنب ما يفسدها مما ينافي الصدق، فتضيع عليه أعماله في يوم أشد ما يكون حاجة إلى حسنة واحدة يرجح بها ميزانه .
– الإكثار من الأعمال الصالحة وإخفاء ما يمكن منها
إن الإكثار من الأعمال الصالحة وخاصة المخفي منها يعتبر من الوسائل التي يتوصل بها إلى الصدق والإخلاص، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها … الحديث»3(3) رواه البخاري 6502...
فالشاهد من هذا الجزء من الحديث القدسي هو محبة الله عز وجل للمكثر من النوافل حتى تصبح جوارحه لا تنطلق إلا في مرضاة الله عز وجل، وهذا هو حقيقة الصدق ، ثم إنه كلما كان العمل لا يراه إلا الله عز وجل كان أقرب للصدق والإخلاص، ولذا جاء الترغيب في أداء النوافل في البيوت وإخفاء ما يمكن إخفاؤه لأنه أرجی للقبول والثواب لتحقق الصدق، أما ما لا يمكن إخفاؤه كأداء الفرائض فهذه لابد من إظهارها مع جماعة المسلمين، وهي وسيلة مهمة من وسائل جلب الصدق والتعود عليها إذا صاحبها الإخلاص .
– تحري الصدق في الحديث وتجنب الكذب
إن توطين النفس على الصدق في الحديث ومجاهدتها في ذلك هو بداية الطريق الموصل بإذن الله عز وجل للوصول إلى الصدق الشامل في جميع الأحوال، بل هو الوسيلة إلى نيل مرتبة الصديقية الشريفة. قال صلى الله عليه وسلم: «وما يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا … الحديث».
فتحري الصدق وترويض النفس عليه يصيره خلقا وعادة للنفس يسري على جميع الأحوال، وكذا الحال في الكذب فإن التهاون به والترخص فيه وعدم محاسبة النفس في ذلك يبعدها عن الصدق بل يصير عادة وطبعا للعبد، وقد يؤدي به ذلك إلى أن يكتب عند الله كذابا والعياذ بالله.
– الإكثار من دعاء الله عز وجل والاستغفار
إن ما سبق ذكره من الوسائل لا تحصل للعبد بدون توفيق الله عز وجل وإعانته له على تحصيله لها؛ ولهذا فلابد للعبد أن يستعين بربه عز وجل في أموره كلها؛ ومنها هذا الأمر ..
فالأمر كله بيد الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا به ، ولو تخلى الله سبحانه عن عبده لحظة واحدة لهلك؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من هذا الدعاء: « يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»4(4) رواه الحاكم (1/ 545)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5820.. .
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «يا معاذ، والله إني لأحبك ؛ أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»5(5) أبو داود ك الصلاة (1522)/ (2/181) وصححه الألباني ، صحيح الجامع (7969).، فالعبد لا يقدر على شيء من أمور الدين أو الدنيا إلا بتوفيق الله سبحانه والاستعانة به عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالی:
(وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه، واستنزال الصواب من عنده ، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علما و حالا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)6(6) إعلام الموقعين (4/ 178)..
والمقصود أن من أعظم الوسائل الجالبة للصدق دعاء الله بصدق للتوفيق إلى الصدق.
الهوامش
(1) في ظلال القرآن: سورة التوبة 44-45.
(2) متفق عليه .
(3) رواه البخاري 6502.
(4) رواه الحاكم (1/ 545)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5820.
(5) أبو داود ك الصلاة (1522)/ (2/181) وصححه الألباني ، صحيح الجامع (7969).
(6) إعلام الموقعين (4/ 178).
اقرأ أيضا
نظرات تربوية في خلق الصدق .. حقيقته وأنواعه
علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”