عندما ينحرف مفهوم العبادة عند المسلمين نجد أثر ذلك في حياتهم وواقعهم، وسياستهم واقتصادهم، وأخلاقهم كذلك؛ فالحياة حزمة واحدة إن دبَّ خلل في ناحية سرى الى بقيتها.
مقدمة
في المقال السابق (المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحراف المفهوم) كان تعريف العبادة كما فهمها الأولون والأئمة المستقيمون؛ وذلك لئلا يحدث انحراف في الفهم ثم في التطبيق. وهذا ما سنعرض أمثلة منه في هذا المقال.
الانحراف في التطبيق
وقد ترتب على ذلك الانحراف في “مفهوم” العبادة انحراف آخر في “تطبيق” العبادة، فحتى الشعائر التعبدية التي حُصرت العبادة فيها بحسب، هي الأخرى نالها ما نالها من الضعف والمَيل بها عن حقيقتها وغايتها، وهذه نتيجة متوقعة وبدهية معروفة؛ فالانحراف في الفهم لا بد أن ينتج عنه انحراف في التطبيق، ويوضح الأستاذ محمد قطب، رحمه الله، هذا الانحراف، فيقول:
“حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة، وانحصرت (العبادة) كلها في هذا الأمر، كان حريّاً بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر، حتى يصبح المطلوب هو أداء الشعيرة بأي صورة كانت.. ولو كان أداءً آليا بغير روح، أو أداء تقليديّاً يحركه الحرص على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة الله. وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد الانهيار”. (1مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص242)
الانحراف في مصدر التلقي
ترتب على الانحراف السابق في مفهوم العبادة انحراف أشد خطراً وأسوأ أثراً، حيث كان الانحراف السابق ذكره منحصراً على مستوى الفرد، بينما هذا الانحراف الذي نحن بصدده يتمثل في النُظُم التي تحكم في أكثر بلدان المسلمين اليوم، والتي يسعى أربابها إلى عزل الدين عن الحياة وتوجيهها وتنظيمها، وحصره بين جدران المسجد وأداء الشعائر التعبدية. ولسان مقالهم أو حالهم يردد تلك المقولة الجاهلية، والتي قالها أصحاب مدين لنبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام ويقولها العلمانيون في زماننا:
ما للدين وحجاب المرأة وعملها..؟ ما للدين والسياسة وموالاة الكفار ومحبتهم..؟ ما للدين والاقتصاد..؟ ما للدين والإعلام والتعليم..؟..!! إلخ، الدين: أن تعبد الله في المسجد، وتقرأ القرآن، وتذكر الله.. هكذا يزعمون!! أما الحياة فلها نُظُمها التي تتناسب مع تطورها.. إلى آخر هذا الهذيان والانحراف والفجور.
إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيهم شعيب بعد أن دعاهم إلى التوحيد وترك البخس والنقص في المكيال والميزان، قال الله عز وجل: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: 87].
إنهم يقولون: يا شعيب ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية، وفي اتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون..؟
سبحان الله..! ما أشبه قلوبهم بقلوب الجاهلين في زماننا هذا، وما أشبه مقولتهم بمقولة العلمانيين المنافقين (2تحدث الأستاذ سيد قطب عن قوله تعالى: ﴿أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ﴾ الآية حديثاً قيماً، فضح فيه منطلقات العلمانيين من الدين وتعاليمه ومحاولاتهم الدائبة لفصل الدين عن الحياة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، انظر الظلال (آية 87 من سورة هود))
والحاصل مما سبق أنه إذا حصرت العبادة في الشعائر التعبدية فحسب، فما معنى قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة:31]، وما معنى قوله تعالى: ﴿وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]. وقد علق العلامة الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية، فيقول:
“فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله”. (3أضواء البيان، 7/ 170)
إن من أخص خصائص العبادة: الطاعة، والاتباع، والخضوع، والانقياد. فكما أن العبادة تأتي بمعنى الدعاء والنسك، فهي تأتي أيضاً بمعنى الطاعة والاتباع، ولكن الجاهلين أو المتجاهلين يريدون حصرها فقط في الشعائر التعبدية والعبادات الخاصة، ثم لا دخل بعد ذلك للعبادة في شؤون الحياة وتسيير دفتها.
وإن الذين يرون هذا الفصل المشين والفصام النكد بين الدين والحياة على قسمين:
أولا: إما أن يكونوا جهلة بحقيقة الدين وحقيقة العبادة في الإسلام؛ إذ لم يكن لهم حظ من العلم الشرعي ينير بصائرهم، وإنما غاية ما عندهم ثقافات مشوهة من الغرب أو الشرق تسربت إلى قلوبهم على حين غفلة وخواء، فتمكنت منها.
وهؤلاء وأمثالهم من الذين انحرفوا بمفهوم العبادة عن معناها الصحيح بسبب جهلهم، وقد نرى بعضهم من المصلين، الصائمين، التالين للقرآن الكريم..!
وعلاج هذا الصنف من الناس يكون بالعلم الشرعي، والرفق بهم حتى يفقهوا هذا الدين بمعناه الصحيح.
ثانيا: والأخطر من أولئك هم الذين يفهمون حقيقة العبادة وحقيقة دين الإسلام، ولكنهم يستكبرون عن الانقياد لهذا الفهم، وينطلقون بخبث وغرض سيء لإثارة الشبهات، وصرف المسلمين عن دينهم، وتشويه هذه المفاهيم في نفوسهم.
وهؤلاء إن صلّوا أو قاموا ببعض الشعائر فهو نفاق وزندقة. والحذر من هؤلاء يجب أن يكون على أشدّه، كما أن فضح أفكارهم وخططهم هو المتعيّن، فهم من المنافقين الذين جاء الأمر الإلهي بمجاهدتهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [التحريم: 9].
الانحراف في المفهوم والتطبيق
ومن مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها ما عُرف عن بعض غلاة المتصوفة وزنادقتهم من أن أداء العبادات والطاعات مرتبط بحصول “اليقين المطلق”. هكذا زعموا؛ فإذا وصل العبد إلى هذا المستوى سقط عنه التكليف ولم يعد في حاجة إلى العبادة التي هي من منازل العامة..! أما الخاصة، ومن يسمونهم بـ “الأبدال” و”الأقطاب” فقد بلغوا درجة اليقين التي ترفع عنهم التكاليف والعبادات ـ نعوذ بالله من هذه الحال، ونبرأ إلى الله عز وجل من أهل الزندقة والإلحاد. (4وقد فضح الإمام ابن القيم هؤلاء المتصوفة الزنادقة في (مدارج السالكين)، 1/ 103، 104)
هذا، ومن شطحات الصوفية في مفهوم العبادة أيضاً: المقالة المشهورة عن بعضهم من أنهم “لا يعبدون الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، وإنما حبّاً له وشوقاً إليه”.
وواضح ما في هذا الكلام من تكلف وانحراف عن طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسؤالهم الله عز وجل جنته وتعوذهم به من النار، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في معرض رده على هذه المقالة:
“كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته، قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال: «حولها ندندن» (5ابن ماجة في الإقامة (910)، والدعاء (3847)، وأبو داود في الصلاة (792)، وفي صحيح ابن ماجة (748)) (6تفسير ﴿لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] لابن تيمية، تحقيق: عبد العلي حامد، ص13)
وقال من قال من السلف: «من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروريّ (أي خارجي)؛ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد».
فالعبادة الحقة هي التي تجمع بين المحبة والخوف والرجاء والذلة والخضوع، كما سبق ذلك في تعريف العبادة وحقيقتها.
خاتمة
كم من خلل يطرأ على العباد عندما يخالفون منهج الرسل ومصدر التلقي؛ إما جهلا أو كِبرا. والنجاة والخير فيما كان عليه الأولون، فهما وتطبيقا. فمن أراد أن يفهم معنى العبادة فكما فهمه الأولون وكما طبقوه كذلك. ففي هذا خير كثير.
……………………………..
هوامش:
- مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص242.
- تحدث الأستاذ سيد قطب عن قوله تعالى: ﴿أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ﴾ الآية حديثاً قيماً، فضح فيه منطلقات العلمانيين من الدين وتعاليمه ومحاولاتهم الدائبة لفصل الدين عن الحياة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، انظر الظلال (آية 87 من سورة هود).
- أضواء البيان، 7/ 170.
- وقد فضح الإمام ابن القيم هؤلاء المتصوفة الزنادقة في (مدارج السالكين)، 1/ 103، 104.
- ابن ماجة في الإقامة (910)، والدعاء (3847)، وأبو داود في الصلاة (792)، وفي صحيح ابن ماجة (748).
- تفسير ﴿لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] لابن تيمية، تحقيق: عبد العلي حامد، ص13.