في إطار الهيمنة الغربية يسعى الغرب الذي يعد نفسه “مركز العالم”، ويعدّ نفسه يحمل قيما “عالمية”؛ يسعى الى السيطرة على الأطراف من خلال التدفق المعلوماتي والإعلامي والثقافي لتفقد الحضارات الأخرى الذاتية الحضارية.
عالمية الهيمنة
بعد أن أوضح المقال الأول أن “العولمة” ظاهرة تلقائية وتاريخية لكل قوة غالبة مسيطرة؛ إذ تحاول كل قوة غالبة فرض تصورها وعقائدها، وقيمها وتقييمها للحياة والأحياء.
أوضح المقال الثاني خطورة “العولمة الاقتصادية” وأن الشركات المتعددة الجنسيات تعدت اقتصاديات أغلب دول العالم، وأنهامن ثَم ـ لقوتها ـ تحدد النظم السياسية ورؤساء الدول النامية وتتدخل في قتلهم أحيانا وتغيير قيم الشعوب من وراء ذلك، وتحقيق مصالح الدول العظمى، وأوضح المقال أدوات هذه العولمة والهيمنة..
أما هنا فيناقش قضية الإعلام والثقافة وما تستلزمهما من تبديل للقيم.
العولمة الإعلامية والثقافية
لقد تطور الإعلام بدرجة أدّت إلى غزو جميع ميادين الأنشطة البشرية؛ حيث وُجدت بنيً أساسية عالمية تنتشر وكأنها نسيج عنكبوتي يمتد عبر العالم أجمع، مستفيداً من التقدم الحاصل في تقنية الرقميات وثورة المعلومات، ومن التداخل الحاصل بين قطاعات الاتصال والهاتف والتلفاز والحاسوب وشبكة المعلومات الدولية “إنترنت”.
ونظراً للترابط القوي بين عولمة الثقافة” ووسائل الإعلام”؛ فإن الإحصاءات تشير إلى أن الاتصالات اللاسلكية تمثل سوقاً تُدرّ (525) مليار دولار سنوياً، وأن هذه السوق تزداد بنسبة 8 إلى 12% سنوياً.
ففي عام 1985م بلغ الوقت الذي استهلكه مستخدمو الاتصالات في العالم على شكل إرسال معلومات أو حديث أو فاكس (15) مليار دقيقة. وفي عام 1995م بلغ (60) مليار دقيقة. (1)
ولأهمية قطاعات الاتصال في نشر وترويج أنماط معينة من الثقافة، قامت الولايات المتحدة بوضع ثقلها كله في معركة تحطيم الحواجز لتصبح الاتصالات قادرة على الانتقال دون عوائق تُذكر عبر العالم كلّه، كالريح فوق صفحة المحيطات.
ومن أجل ذلك انعقدت أربع مؤتمرات دولية (جنيف 1992م، بيونس أيرس 1994م، بروكسل 1995م، جوهانسبورج 1996) نجح خلالها الأمريكان من تسويق فكرتهم حول: “مجتمع المعلومات العالمي”، والضغط لفتح حدود أكبر عدد ممكن من البلدان أمام التدفق الحرّ للمعلومات. (2)
تعزيز السيطرة
ولعل هذا هو ما حدا بباحث من وزن “نعوم تشومسكي” الأكاديمي الأمريكي المعروف أن يقول: “إن (العولمة الثقافية) ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف أي على العالم كله”. (3)
ونلاحظ هذا من خلال قطاع “الاتصالات الثقافية” للنظام العالمي الذي أخذ يتطور طبقاً لتدفق المعلومات من منطقة “المركز” ـ الولايات المتحدة؛ أول مُنتج للتقنية الحديثة ـ إلى “الأطراف” ـ دول العالم الثالث خاصة ـ وهو ما يؤيده انتشار لغةً بمفردها هي اللغة الإنجليزية.
وفي هذا الإطار عبّرت دولٌ متقدمة داخل المنظومة الحضارية الغربية نفسها مثل: فرنسا، وكندا “مقاطعة كيبيك” .. عبّرت عن التوجس الشديد من المخاطر الناجمة عن الهيمنة الأمريكية على الإعلام والثقافة تحت ستار العولمة؛ إذ إن وسائل الإعلام الأمريكية تسيطر في الواقع على 65% من مجمل المواد والمنتجات الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية، بل إن فرنسا تقاوم سيطرة اللغة الإنجليزية على شبكة الإنترنت؛ وذلك لأن 95% من حجم تداول المعلومات والاتصالات على الإنترنت باللغة الإنجليزية، في حين أن 2% فقط باللغة الفرنسية.
وفي هذا الصدد يقول وزير العدل الفرنسي”Jack tobon”
“إن الإنترنت بالوضع الحالي شكْل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في خطر”. (4)
ولذلك رفعت فرنسا خلال مناقشات ثقافة (الجات) الأخيرة شعار: “الاستثناء الثقافي”
وفي المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة الأمريكية في مجال تدفق البرامج الإعلامية والتلفاز إلى حدّ دعا بعض الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال الكنديين أصبحوا لا يدركون أنهم كنديون لكثرة ما يشاهدون من برامج أمريكية. (5)
[للمزيد اقرأ العولمة بين منظورين .. (1-4)]
مخاطر “الأمركة” ووسائلها
ولعل تمكُّن الولايات المتحدة من تدعيم هيمنتها على العالم عبر قدرتها على التحكم في المنظومات المعلوماتية وتقنيات الاتصال هو ما دفع الباحثين إلى التعبير عن العولمة أنها: “أمركة”؛ إذ تستهدف بشكل خاص إشاعة وتعميم وتسييد أسلوب الحياة الأمريكية وقيمها من خلال:
- قرية المواصلات الأمريكية.
- وحدة السوق الأمريكية.
- حضارة الاستهلاك الأمريكي.
- وحدة النمط المعيشي.
- الديمقراطية الأمريكية. (6)
وهذا التصور يعبر عنه بوضوح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بقوله:
“إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا”. (7)
وتنبع خطورة “عولمة الإعلام” من كونها وسيلة للسيطرة على الإدراك وتسطيح الوعي وتنميط الأذواق وقولبة السلوك.
وهدف ذلك كلّه هو تكريس نوع من الاستهلاك لنوع معين من المعارف والأفكار والسلع تشكل في مجموعها ما يطلق عليه د. محمد عابد الجابري: “ثقافة الاختراق”.
اعترافات من “المركز”
ونختم هذا الحديث عن “العولمة الإعلامية والثقافية” بكلام أحد الباحثين الغربيين في كتابه: “تغريب العالم” ينقل لنا فيه كيف تتم عملية الغزو الثقافي في بلدان العالم، يقول:
“ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية، يتدفق على شكل صورة .. كلمات .. قيم أخلاقية، قواعد قانونية .. مصطلحات سياسية .. معايير .. كفاءة .. ينطلق كل ذلك ليجتاح بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتلفزيونات، وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية، ينطلق عبر سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات العالمية الأربع: أسوشيتدبريس ويونايتدبريس (الولايات المتحدة)، رويتر (بريطانيا)، وفرانس بريس (فرنسا). وتسيطر الولايات المتحدة على (65%) من تدفق هذه المعلومات.
هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين ـ أو بتعبير آخر: “الأسرى السلبيين” – يشكل أنواع سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط حياتهم، وبذلك تذوب “الهويات الذاتية” في هذا الخضمِّ من الغزو؛ لأن مواد الغزو تُصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعينة”. (8)
سبب استهداف المسلمين
ومن المؤكد أن المستهدَف خاصة بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون: العرب منهم خاصةً، والمسلمون عامة، وذلك لعاملين اثنين:
أولهما: ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة؛ يأتي على رأسها النفط والغاز وثروات طبيعية أخرى.
ثانيهما: ما ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن هذه الأمة مستعصية على الهزيمة إذا حافظت على هويتها الإسلامية..
ومن ثم فالطريق الوحيد هو القضاء على تفرد شخصيتها، وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل أشكال الاحتلال والسيطرة.
………………………………………..
الهوامش:
- أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد، ص29 (نقلا عن مجلة ملتنشيونال مونتر).
- عمرو عبد الكريم: العولمة نص42.
- المرجع نفسه، ص43.
- المرجع نفسه، ص43.
- أبو يعرب المرزوقي: العولمة والكونية، ص27.
- ندوة “هويتنا الإسلامية”، الشيخ محمد بن إسماعيل، مجلة البيان، العدد129، ص46.
- المصدر السابق.
- المرجع نفسه، د.مصطفي حلمي، ص55 (نقلا عن : لا توش: تغريب العالم).