العولمة الاقتصادية بديل عن الاستعمار القديم، يتناسب مع تطور الشعوب وأفكارها، تجاوزت فيه الشركات متعددة الجنسيات قيمة اقتصاديات أغلب دول العالم، وتحكمت في مصائر رؤساء وحياتهم..!

عولمة هدامة أم إيجابية

ناقش المقال الأول أن “العولمة” ظاهرة تلقائية وتاريخية لكل قوة غالبة مسيطرة؛ إذ تحاول كل قوة غالبة فرض تصورها وعقائدها، وقيمها وتقييمها للحياة والأحياء. وأوضح أن هناك عولمة سلبية ـ ومن صورها الاستعمار التخريبي الغربي ـ لامتصاص ثروات الشعوب وفرض قيمٍ هدامة وعقائد منحرفة.

وهناك عولمة إيجابية لنشر الهدى وتبليغ الرسالة، وترسيخ قيم العدل والتسامح، وإيصال الحقوق الى أهلها، وهو دور الاسلام تاريخيا، والذي تأثرت به بقية الحضارات باختلاف نسب التأثر. وهذا مدخل للتعرف على العولمة المعاصرة وخصائصها.

خصائص العولمة المعاصرة

جاءت “العولمة” (Glabolisation) لتكريس توجه الهيمنة ولتفرض أنماطا حضارية جديدة في إطار “الليبرالية الجديدة”، بهدف تقوية الرأسمالية العالمية وخدمة مصالحها.

وقد جرى استخدام مصطلح “عولمة” في هذا العقد على نطاق واسع. وتنبع خطورة هذا المفهوم وأهميته من أنه تحول كليةً إلى سياسات وإجراءات عملية ملموسة في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.

وأضحى عمليةً تطرح في جوهرها هيكلا للقيم تتفاعل كثير من الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضه وتثبيته، وقسر مختلف شعوب المعمورة ـ وخاصة المسلمين ـ على تبني تلك القيم وهيكلها ونظرتها للإنسان والكون والحياة.

ما هي العولمة في صورتها المعاصرة؟

إنها ظاهرة تتداخل فيها أمور السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، وتحدث فيها تحولات على مختلف الصور تؤثر في حياة الإنسان على كوكب الأرض أينما كان.

ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة الجنسيات التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة والانتشار الجغرافي والاعتماد على المدخرات العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. (1)

وهي وسيلة لـ “الهيمنة” أو هي نمط من الاحتلال الجديد؛ احتلالا جدّد آلياته وأساليبه بفعل التقدم التقني، فلم يعد قائما على احتلال الأرض؛ بل أصبح قائما على تحويل العالم كله إلى سوق استهلاكية للأفكار والمنتجات الغربية.

أو بعبارة أخرى؛ فهي تمثل عصا استعمارية جديدة بحكومة عالمية خفية لها مؤسساتها: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولها أدواتها: الجات، والسبعة الكبار.

والولايات المتحدة ـ مهندسة هذا النظام العالمي الجديد ـ أخذت بمساندة احتكارات الشركات متعددة الجنسيات، ودعْمها في اختراق مجتمعات عالم الجنوب أو العالم الثالث، وإخضاع شعوبها لأنماط المعيشة الغربية، وتحديدا: الأمريكية.

مجالات العولمة

عولمة الاقتصاد

قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها دعت الولايات المتحدة حلفاءها لمؤتمر عقد في مدينة “بريتون وودز” عام 1944م، للتفكير في الأسس التي سيدار على أساسها النظام الاقتصادي العالمي.

وقد سيطرت على سير أعمال المؤتمر توازنات القوى التي نجمت عن الحرب، فكان من البدهي أن تصوغ أمريكا للعالم هذا النظام بما يحقق مصالحها.

وقد تمخص هذا المؤتمر عن ميلاد عدد من المؤسسات تُشكّل في مجملها الركائز التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الدولي وهي:

– صندوق النقد الدولي: ويقوم بدور الحارس على النظام النقدي العالمي.

– البنك الدولي: ويعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى.

– الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة والتي تعرف اختصاراً باسم: (الجات)، التي تمخضت عن إنشاء المنظمة العالمية للتجارة (2)، وهي الشريك الثالث لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي في وضع السياسات العالمية، كما عبّر عن ذلك مدير عام الاتفاقية “بيتر سذرلاند”. (3) 

ويعتبر الهدف الرئيس من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة تمكين الدولة العضو من النفاذ إلى الأسواق لباقي الدول أعضاء الاتفاقية، وقيام كل دولة بتثبيت بنود تعريفاتها الجمركية إلى حدود مقبولة من باقي الأطراف المتعاقدة بالاتفاقية، بحيث لا يتم تغيير هذا الربط “التثبيت” إلا بعد الرجوع إلى بقية الأطراف وتعويض المتضررين منها بهذا التغيير. (4) 

لكن التفاوت الكبير في القوة السياسية والمنافسة الاقتصادية يجعل بنود الاتفاقية تصبّ في مصلحة الدول الكبرى؛ فقد أعلنت الولايات المتحدة عزمها على استغلال حق “المطالبة بالتعويض” أو “فرض العقوبات التجارية” في حالة الإخفاق في الوصول إلى حلّ مع المخالفين.

بل والأخطر من ذلك: أنه لأول مرّة في التاريخ الاقتصادي للأمم تصبح “السياسة التجارية” للدول المستقلة شأناً دولياً وليس عملاً من أعمال السيادة الوطنية؛ إذ أصبحت مقيَّدة بمجموعة من القواعد الملزمة وآليات التحكم الإجبارية؛ حيث إن منظمة التجارة العالمية تحدّ من قدرة دول الجنوب على التصرف المطلق ضمن حدودها الوطنية، وتملك “حق تشريع قوانين دولية” و”سلطة قضائية” تلاحق الحكومات التي لا تنصاع لقراراتها، و”قوة شرطية” تمارس حق التفتيش داخل الدول. (5)

محاور تحكم الغرب في الاقتصاد العالمي

ومن جهة أخرى، فقد وضع الغرب آليات التحكم في الاقتصاد العالمي بناءاً على ثلاثة محاور: 

أولها: النظام النقدي العالمي

من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على وسائل الدفع العالمية؛ حيث يمثل وسيلة الدفع العالمية المقبولة التي حلّت محل الذهب لتغطية إصدارات معظم عملات الدول، وبخاصة دول العالم الثالث.

وتتحكم في هذا النظام المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ بوضع السياسات النقدية التي تخدم هيمنة رؤوس الأموال الغربية على اقتصاديات دول الجنوب والكتلة الشرقية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا بزعامة الاتحاد السوفييتي. (6)

ثانيهما: التحكم في حركة رؤوس الأموال

من خلال أسواق المال العالمية التي تتركز في الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وأوروبا بالدرجة الثانية، واليابان بالدرجة الثالثة. وهذه الحركة لرؤوس الأموال تتم السيطرة عليها من خلال السياسات التي تضعها المؤسسات المالية الأمريكية التي تتحكم بدورها في المؤسسات المالية الأوروبية واليابانية من خلال تملّكها لمعظم أسهم تلك المؤسسات.

ومن أجل ذلك نجد الدعوة التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية بتشجيع التخصيص، وبالسماح لرؤوس الأموال الأجنبية بتملك أسهم الشركات والسندات التي تصدرها الحكومات المحلية، ما هي إلا وسيلة لتحقيق الهيمنة الاقتصادية الغربية على اقتصاديات تلك الدول. (7)

وقد أخذ البنك الدولي ـ بتوجيه من الولايات المتحدة ـ بإجبار دول العالم الإسلامي على إعادة هيكلة اقتصادياتها وفقاً لهذه السياسة الليبرالية، فاتجهت هذه الدول إلى الخارج لجذب رأس المال الأجنبي، وتبنِّي مفهوم القطاع الخاص من خلال استخدام آليات السوق الحرة، وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح للملكية العامة وزيادة الفوارق الاجتماعية، ورهْن أجيال المستقبل بالديون الخارجية.

ثالثها: الشركات متعددة الجنسيات

وهي تمثل أهم مظاهر عولمة الاقتصاد، والإحصاءات الآتية توضح مدى خطورة تمركزها الرأسمالي:

  • إن إيرادات أكبر خمسمائة شركة في العالم بلغ في عام 1994م نحو (10) تريليون و(254) مليار دولار، أي ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم في سنة 1993م.
  • إن مبيعات أكبر 200 شركة تجاوزت مداخيل اقتصاديات (182) دولة ما عدا أكبر (9) دول؛ فقد وصل دخل (182) دولة إلى مستوى (6.9) تريليون دولار، بينما وصلت مبيعات أكبر (200) شركة إلى (7.1) تريليون دولار.
  • إن حجم المبيعات لأكبر ثلاث شركات متعددة الجنسيات (إكسون، شل، موبيل) عام 1980م فاق حجم الإنتاج الوطني الإجمالي لكل دول العالم الثالث عدا سبع دول: (الصين، البرازيل، الهند، المكسيك، نيجيريا، الأرجنتين، أندونيسيا).
  • في عام (1996م) تعدى حجم المبيعات السنوية لأكبر (20) شركة (67) مليار دولار.

أما بالنسبة لكل شركة على حدة

  • فليب مورس التي احتلت المركز (69): فإن حجم مبيعاتها تجاوز حجم اقتصاد نيوزيلندا، ولها فروع في (170 دولة).
  • متسوبيشي: المركز (22): حجم نشاطاتها الاقتصادية أكبر من حجم النشاط الاقتصادي لأندونيسيا التي تحتل المركز الرابع على المستوى العالمي من حيث تعداد السكان.
  • جنرال موتورز: المركز (26): أكبر من الدانمارك في حجمها الاقتصادي.
  • فورد: المركز (31) أكبر من جنوب إفريقيا اقتصادياً.
  • تويوتا: المركز (36): أكبر من النرويج في نشاطها الاقتصادي.

وجدير بالإشارة أن مجال عمل هذه الشركات تجاوز الميدان الاقتصادي إلى العمل على التأثير في القرارات السياسية وثقافة الناس وطرائق عملهم، مما جعل كثيراً من الاقتصاديين والمهتمين بظاهرة هذه الشركات يخلُص إلى أنها نوع من الاستعمار بأسلوب يناسب وعي الشعوب وتطورها.

وكانت طموحاتها التجارية محفوفة بالنتائج الدبلوماسية العالمية في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.

ونذكر على سبيل المثال: الدور الذي قامت به الشركة الأمريكية (14) في أحداث 1972م في “الشيلي” التي أدت إلى سقوط نظام “سلفادور إلَّندي” ذي التوجه الماركسي، أو العمل الذي قامت به (British feroling) عام 1953م في إسقاط حكومة (مصدق) في إيران حين أمّم مصافي النفط وآباره.

وفي عام 1997م شاركت (إلف الفرنسية) التي تسيطر على ثلثي إنتاج النفط في الكونغو في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب (باسكال ليسوبا)؛ لأنه أراد كسر عملية الاحتكار التي تقوم بها (إلف) بالتفاوض مع شركات النفط الأمريكية.

بل في بعض البلدان كنيجيريا، فإن شركة النفط (شل) هي الحكومة الفعلية؛ ففي مقابلة مع “د. أوين سراويو” شقيق “كن سراويو” الذي أعدمته السلطات النيجيرية بسبب انتقاده لشركة (شل)، سألته مجلة (ملتنشيونال مونتر) في عددها الصادر في يوليو 1996م السؤال الآتي:

إذن (شل) هي التي تحكم وليست الحكومة؟ فأجاب: نعم (شل) بطبيعة الحال هي التي تحكم فعلياً، هذا معروف جداً (أي في نيجيريا). (8)

صناعة الظلم

يقول “بيير أوجين” رئيس منظمة الشفافية العالمية، وهي منظمة تهتم بمراقبة الفساد المالي والإداري على المستوى العالمي:

“إن نسبة كبيرة من الفساد المنتشر في دول العالم الثالث هي من صنع الشركات المتعددة الجنسيات التي تتركز مقارها في الدول الصناعية، وتعمل على تقديم رشاوى كبيرة لمسؤولي الدول المختلفة من أجل الفوز بالصفقات”. (9)

إن الظلم وصف ولازم للكفر، ظلم الانسان للانسان، وظلمه لغيره كأفراد، وقد يتجاوز سعار شهوة المال والسيطرة الى التحكم في أُمم وشعوب، وإفقارها وتجوعها، بل وإبادتها مقابل أن ﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾. تبقى الحقيقة بعد ذلك .. حاجة الناس الى الاسلام ودوْره، دوره كدين وعقيدة، ودوره كرسالة عالمية.

………………………………………………….

الهوامش:

  1. عمرو عبد الكريم: العولمة، عالم ثالث على أبواب قرن جديد، ص35.
  2. المرجع نفسه،ص40.
  3. ياسر قارئ: اتفاقية التجارة العالمية، ص7.
  4. عمرو عبد الكريم: العولمة، ص40.
  5. المرجع نفسه، ص39.
  6. محمد بن عبد الله الشباني: مؤتمر القاهرة الاقتصادي، ص3132.
  7. المرجع نفسه، ص32.
  8. أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد (الشركات متعددة الجنسيات)، ص 2223، (نقلا عن: الشقيقات السبع: شركات البترول والعالم الذي صنعته لأنتوني سمبسون).
  9. أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد،ص2729 (نقلا عن مجلة ملتنشيونال مونتر).

لقراءة البحث كاملا، على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة