للظلم آثار وخيمة في الآخرة؛ ولكنه كذلك عاجل العقوبة في الدنيا، حتى يرى الناس أثر الظلم يمتد ليشمل الظالم ومن أعانه والمجتمعات الراضية به أو المستكينة اليه.
مقدمة
الظلم ظلمات على أصحابه في الدنيا والآخرة، وهو بؤس وشقاء وعناء على أهله في الدنيا وعذاب ونكال في الآخرة. وما من مصيبة ولا عقوبة تقع في الدنيا على مستوى الفرد أو الأمة إلا وسببها الظلم والعدوان؛ سواء كان ذلك الظلم هو الإشراك بالله عز وجل الذي هو أعظم الظلم، أو ظلم النفوس بما دون ذلك من المعاصي والمنكرات، أو ظلم العباد بعضهم بعضا.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: 59]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].
من آثار وعواقب الظلم في الدنيا
وأسوق فيما يلي بعض آثار الظلم وعواقبه السيئة في الدنيا:
أولا: افتقاد الأمن
في أجواء الظلم لا يهنأ الناس بعيشهم ولا يأمنون على أنفسهم ولا على عقولهم ولا على أعراضهم وأموالهم؛ بل ينتشر الخوف على هذه الضروريات الأساسية في حياة الإنسان. والتاريخ والواقع شاهدان على ذلك؛ فما من أمة ينتشر فيها الظلم من الشرك فما دونه إلا ويختل أمنها ويسود الخوف أهلها.
وهذا مصداق قول الله تعالى وهو يقص علينا محاجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82] فأخبر سبحانه أن أحق الناس بالأمن أولئك الذين لم يخلطوا إيمانهم بظلم. هذا، وإن كان المراد بالظلم هنا الشرك الأكبر فإنا نستفيد منه أن أسعد الناس بالأمن والطمأنينة هو من كمَّل التوحيد وحققه، وبقدْر ما ينقص من توحید العبد ينقص ذلك من أمنه؛ حتى إذا ساد الشرك والمعاصي والمظالم في أمة من الأمم فإنها تفقد أمنها ويدبُّ فيها الخوف والجوع كما قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].
ولا يغرنا ويخدعنا ما نسمع عنه من أمن كاذب في الدول الكافرة والمجتمعات الظالمة، فإن هو إلا أمن زائف تكذبه الإحصائيات المذهلة عن ما يحصل من ظلم وعدوان على الأنفس والأعراض والأموال. وقد لا يشعر بذلك من عاش بينهم فترة وجيزة، لكن العبرة بكلام القوم أنفسهم وصيحات الخطر التي ينادي بها بعضهم .
وإن المتأمل اليوم في حياة المجتمعات الإسلامية في أكثر بلدان المسلمين ليكاد يقطع بصعوبة ذوقها للأمن في ضرورياتها الأساسية وهو يرى أسباب المخاوف وانعدام الأمن منتشرة في البر والبحر. إذا كيف يأمن الشخص على دينه وسلامة معتقده وهو يرى ويسمع من وسائل الإعلام ما يثير الشبهات التي تضطرب لها القلوب الضعيفة..؟ وكيف يأمن الإنسان على دينه ونفسه وعرضه وماله وهو يرى أكثر المجتمعات الإسلامية لا يحكمها شرع الله عز وجل الذي في ظله يسود الأمن والطمأنينة؛ وإنما تحكمها أنظمة البشر الظالمة التي تجرَّأ فيها المجرمون على الأنفس بالقتل والاعتداء، وفي ظلها تنتشر الخمور والمخدرات التي تفسد العقول وتحطم النفوس..؟
بل كيف يأمن الإنسان على عرضه ومكرُ الليل والنهار لا يفتر يبث الفساد ويشيع الفاحشة ويسهل طريقها ويثير الشهوات ويفتح أبوابها..؟ وحتى لو أغلق المسلم بابه ورفَض هذه الوسائل المفسدة؛ فإن غبارها ودخانها يصل إليه شاء أم أبي.
وكيف يأمن على ماله مَن عزَّ في وقته المال الحلال حيث انتشرت البيوع المحرمة، وتنوعت أبواب الربا وأشكاله وصار له بنوکه وأنظمته وحماته، وانتشرت أبواب الحيل والخداع لكسب المال الحرام، وأصبح صاحب المال والعقار يخشى على ماله من المغتصبين والسراق، والمتحايلين والذين يكثرون ويظهرون في غيبة شرع الله العادل، وذلك حين ينتشر الظلم والبغي والفساد في الأمة..؟
ثانيا: التهديد بعقوبة الله
ففي أجواء الظلم والظالمين تنعقد أسباب العقوبة من الله عز وجل ويصبح الناس مهدَدين بما أصاب أشياعهم من الظالمين الغابرين؛ لأن سنة الله عز وجل لا تحابي أحدا، وليس بين الله سبحانه وبين أحد من خلقة نسب إلا طاعته ؛ قال الله عز وجل: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123]، وقال تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر: 43]. وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 51].
وليس بالضرورة أن يكون العذاب والعقاب كالذي حل بقوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح والذين من بعدهم من الظالمين؛ بل قد يظهر في صور أخرى كالذي يحصل اليوم في المجتمعات الظالمة من القحط والجدب، ومن المجاعات والحروب، ومن الأوبئة والأمراض، ومن تسَلّط الأعداء وقهرههم، ومن الفرقة والاختلاف وکون بأس المسلمين بينهم … إلخ.
وكل هذا من آثار الظلم والبغي الذي ينتشر اليوم ولا يجد من يرفعه ويمنعه ويأخذ على أيدي الظالمين العابثين.
وقد يمتد العقاب والعناء فيتجاوز الظالمين إلى غيرهم من الصالحين الساكتين؛ قال الله عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 20]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117]. وتأملْ قوله تعالى: ﴿مُصْلِحُونَ﴾ ولم يقل: “صالحون”. فرتب إهلاك القرى على خلوها من المصلحين. وهنا ندرك خير وبركة المصلحين على مجتمعاتهم وكيف أنهم صمام الأمان لأمتهم في تأخیرالعذاب أو منعه ـ بإذن الله تعالى.
ثالثا: شؤم الظلم على فاعله
للظلم شؤم الظلم على فاعله في نفسه وأهله وماله ولو بقي ردحا من الزمن في عافية ظاهرة، لكنه في الحقيقة يعيش في تعاسة وشقاء لا يذوق طعم السعادة والبركة؛ بل إنهما لتُنزَعان من حياته. وهذا أمر مشاهد ومحسوس، ثم إن المتعة الظاهرة لا تستمر طويلا؛ فلقد جرت
سنة الله عز وجل في أخذ الظالم وعدم إفلاته قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (1البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر والصلة (2083)). مع ما يحاط به الظالم من مشاعر الكراهية والعداء من الناس وتمنّيهم زواله ودعائهم عليه، فأيّ هناء وراحة بعد ذلك للظالمين..؟! والأحداث والوقائع والقصص في نهاية الظالمين، دولا وأفرادا ومحق بركة أعمالهم وأموالهم؛ كثيرة في القديم والحديث ولكن هل من مدّکر..؟
رابعا: تسليط الولاة الظلمة
يسلط الله على الأمة من يسومهم سوء العذاب من الولاة الظلمة حينما ينتشر الظلم بين أفراد الأمة فيعتدي بعضهم على بعض في الأبدان والأعراض والأموال ويكثر ذلك ولا يوجد من ينكره ويدفعه فإن سنة الله عز وجل جرت أن يسلط على الأمة الذين يبغون على الناس ويفرضون عليهم من الكلف السلطانية، والأنظمة التي تُلحق بالناس العنت والضيق عليهم في أنفسهم وأموالهم وقبل ذلك في أديانهم؛ وما ذاك إلا عقوبة للناس على ظلمهم، فيسلط الله عز وجل الظالمين على الظالمين.
وهذه سنة الله عز وجل؛ قال الله سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]، وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالی کلام جيد حول هذا المعنى حيث يقول:
“وتأمّلْ حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعیفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه. کیف سلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء. وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها .
وتأمل حكمته تعالى في أنْ جعَل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم؛ بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم؛ فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتُهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم مالهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والوظائف. وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمّالهم ظهرت في صور أعمالهم. وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم”. (2مفتاح دار السعادة 292، 293 باختصار يسير)
ولا يعني ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر كلامه الرضى بظلم الظالمين أو تبرير ظلمهم وعدم إنكاره؛ کلا فليس هذا مراده رحمه الله تعالى؛ وإنما أراد التنبيه على سنة الله عز وجل في التغيير، وأن الله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن ما يصيب الأمة من ظلم الولاة المتجبرين إنما هو بسبب ذنوب الناس، وظلم بعضهم لبعض، فجازاهم الله عز وجل بتسليط الظلمة عليهم. والله لا يحب الظالمين أفرادا وولاة. وتمضي سنة الله عز وجل على الولاة الظلمة فيسلط الله تعالى عليهم من يقهرهم ممن هو أشد منهم قوة وفتكا. وهكذا حتى يعود الظالم إلى نفسه ويحاسبها ويبحث عن مكمن الداء بها فيتخلص من الظلم والمظالم، وفي ذلك باب الفرج والنصر وزوال الظلم.
خامسا: انتشار البغضاء والشحناء وافتقاد الطمأنينة
وذلك بانتشار البغضاء والأحقاد والشحناء بين الناس وعدم اطمئنان بعضهم لبعض، عندما ينتشر الظلم ويكثر بين العباد فإن النتيجة الحتمية هي ذلك؛ بل يذهبون إلى أبعد من ذلك ألا وهو التنافس في الظلم والخيانة والغدر، والبحث عن أي فرصة تلوح للانتقام ورد الظلم بظلم مثله أو أشد، وهكذا يجرُّ الظلم بعضه بعضا، ويؤزُّ الناس بعضهم بعضا إليه حتى يقول قائلهم: “إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب”.
ولا يخفي ما ينشأ في أجواء هذه المشاعر والمظالم من الفساد والشرور والفرقة وتقطيع الأرحام وإنفصام أواصر الأخوة بين الناس.
وقد جرَت سنة الله عز وجل على أن أي قوم تمالأوا على ظلم غيرهم وتعاونوا فيما بينهم على الإثم والعدوان فإن الله عز وجل يجازيهم بجنس فعلهم ويؤول أمرهم إلى الفرقة والاختلاف وعدوان بعضهم على بعض أو يسلط عليهم من يظلمهم من خارجهم.
- [للمزيد: أسباب معينة على توقِّي الظلم]
خاتمة
عندما ينتشر الظلم ويكثر في أمة من الأمم، ويأكل القوي فيها الضعيف ويذل الوجهاء والملأ فيها عامة الناس فإن الأمة بمرور الوقت تستمرئ الذلة والمهانة وتصبح مهيأة لتسلط الأعداء وقبول التبعية لهم والاستخذاء، كما تضعف روح المقاومة والعزة فيها، وهذا أمر مُشاهَد ومعروف في القديم والحديث؛ فما من أمة تستمرئ الظلم وتکثر المظالم في جنباتها ولا يوجد فيها من يرفع هذا الظلم ويغيره، إلا ونرى الأعداء المتربصين بها قد استباحوها وجاسوا خلال الديار فيها دون أدنى مقاومة أو مدافعة من أبنائها. وذلك لما وصلوا إليه من الذل والضعف والمهانة الناشئة من كثرة الظلم والبغي الذي حطم النفوس وقضى على مشاعر العزة والاستعلاء فيها. وهذه سنة الله عز وجل التي قد خلت في عباده .
…………………..
الهوامش:
- البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر والصلة (2083).
- مفتاح دار السعادة 292، 293 باختصار يسير.