عندما يعرف المسلمون صفات الطائفة المنصورة فلا بد من التزامها ونصرتها، ولا بد من الوعي بطبيعة الصراع وأبعاده، والثبات، وطلب الجزاء الأخروي والانشغال بما يجب، واقتفاء أثر السابقين.

مقدمة

تناولت هذه الدراسة في المقال الأول الأول محورية عقيدة الولاء والبراء .. وفي المقال الثاني مرويات الحديث وبيان تواتره. وفي المقال الثالث أنها لا يخلو منها زمان وانها طائفة من أمة محمد وكونها على الحق .. وفي المقال الرابع صفة وكونهم ظاهرين منصورين ومجاهدين وصابرين على اللأواء.

وفي المقال الخامس أنهم غير محصورين في مكان واحد، وبيان مرتكزات وصفهم في كتاب الله. وفي المقال السادس تناولت الدراسة ربطها بواقعنا المعاصر. وفي المقال السابع عدة وقفات ألا تدعي جماعة انحصار الطائفة المنصورة فيها، ووجوب البحث عنها والانتماء اليها والصبر على ذلك، ودور المرأة المسلمة، والحذر من خذلان الطائفة المنصورة..

وفي هذا المقال الأخير عدة وصايا لإدراك حقيقة الصراع، والثبات وما يعين عليه، والانضمام للطائفة المنصورة ونصرتها

الوقفة السادسة والأخيرة

وصايا لعموم الأمة

أضمِّن هذه الوقفة بعض الوصايا التي أوصي بها نفسي وإخواني من طائفة السنة المنصورة في وقت رماهم الأعداء في أنحاء الكرة الأرضية من قوس واحدة في معركة شرسة احتدمت بين الحق والباطل..

وكشف فيها العدو الكافر من نصارى ويهود وشيوعيين وباطنيين أهدافهم في هذه الحرب، وأنها مع الإسلام الحق وأهله..

وتعاونوا وتحالفوا وتناسوا خلافاتهم أمام عدوهم المشترك الذي أقضَّ مضاجعهم فخططوا بالليل والنهار للقضاء عليه، وأنَّى لهم ذلك ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾..! [الصف: 32].

الوصية الأولى

إدراك ووعي بحقيقة الصراع العقدي

على المسلمين بعامة والقائمين بنصرة هذا الدين بخاصة أن يعوا حقيقة الصراع مع الباطل، وأنها حرب عقدية دينية وليست حربًا اقتصادية أو سياسية أو طائفية أو ما يسمونه بالحرب على التطرف والإرهاب..

فكل هذه الادعاءات التي يعلنها الكفرة وإخوانهم المنافقون كهدف من حربهم على بلاد المسلمين وتدميرها كذب وخداع وافتراء وتغطية لحرب لا هوادة فيها على الإسلام الحق وأتباعه، والذي يمثله أهل السنة والجماعة، القائمون بأمر الله، الناصرون لدين الله.

إنها حرب على كتاب الله عز وجل وهدْي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المتمثل في الدعوة إلى التوحيد الخالص والخلوص والبراءة من الشرك وأهله، وما يقتضي ذلك من موالاة الموحدين والبراءة من الكفار والمنافقين، والدعوة إلى ذلك، ورفع راية الجهاد في سبيل الله عز وجل لتحقيق ذلك..

هذا هو ما قاله الله عز وجل في كتابه وحث المؤمن عليه.

إن هذه المفاهيم القرآنية والتوجيهات النبوية هي التي يقول عنها الأعداء الكفرة: إنها مفاهيم تطرف تدعو إلى الكراهية والإرهاب، وإلا فما موقفهم من قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ﴾..؟! [المائدة: 51]

وقوله عز وجل: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾..؟! [التوبة: 29]

وغيرها وغيرها من الآيات التي يقول الكفار عن المؤمنين بها العاملين بمقتضاها إنهم متطرفون!

حقيقة مقصودهم بالتطرف

إذن؛ فعداوة الكفار للإسلام والقرآن ليست كما يزعمونه ـ مكرًا وخداعًا ـ أنها ضد المتطرفين؛ فالإسلام نفسه والقرآن نفسه عندهم هو دين التطرف وكتاب التطرف.

وهذا ما ينبغي أن يعيه المسلمون ولاسيما القائمون بنصرة الدين، فالحرب دينية على الاسلام نفسه؛ لأن دين الإسلام عندهم هو دين تطرف، وهذا هو شغلهم الشاغل على مدار التاريخ الاسلامي..

فهي من أهل الكتاب حرب صليبية يهودية، ومن الروس وحلفائهم شيوعية إلحادية، ومن الرافضة الباطنيين المجوس؛ تهدف هذه الحروب جميعها إلى تبديل الدين الحق في نفوس أهله وواقعهم.

قال الله عز وجل: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]. وقال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [النساء: 89]. وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة: 217).

وقال سبحانه: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 109].

وضوح المعركة في سورة البروج

وقال سبحانه عن أهل الأخدود الذين أحرقهم الكفار بالنار: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 8].

وما أجمل ما علق به سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية حيث قال:

“إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة..

إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية، ولا معركة عنصرية… ولو كانت شيئًا من هذا لسهل وقعها، وسهل حل إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة؛ إما كفر وإما إيمان.. إما جاهلية وإما إسلام.. إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة..

وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدوًّا لهم فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة ﴿إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ويُخلصوا له وحده الطاعة والخضوع.

وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية، كي يموّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة.

فمن واجب المؤمنين ألا يُخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيَّت. وإن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها.

النصر في أية صورة من الصور؛ سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود، أو في صورة الهيمنة الناشئة من الانطلاق الروحي كما حدث للجيل الأول من المسلمين ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ وصدق الله العظيم، وكذب المموهون الخادعون”. (1«معالم في الطريق» (ص185، 186) باختصار)

ومع وضوح وجلاء ذلك في كتاب الله عز وجل إلا أن مِن بني قومنا من ينخدع بإعلام الكافرين والمنافقين في بيانهم لأهداف حربهم وأنها على الإرهاب؛ وذلك لإعراضهم وغفلتهم عن كلام ربنا سبحانه في كتابه الكريم..

ولهؤلاء وأمثالهم نقول: ارجعوا إلى كتاب الله عز وجل، اتلوه وتدبروه، اجعلوه الهادي والدليل لكل أحكامكم ومواقفكم في خضم الفتن التي تموج كموج البحر.

كما نقول لهؤلاء الذين غفلوا عن كلام ربنا سبحانه؛ ارجعوا إلى تصريحات بعض أئمة الكفر وزعماء الحرب من اليهود والنصارى ترونهم قد صرحوا بأن حربهم دينية وتستهدف دين الإسلام، والإسلام فحسب.

كلماتهم توضح الحقيقة .. أمثلة لذلك

  • وقف مندوب أمريكا في هيئة الأمم قائلًا: إن الصراع الحقيقي في الشرق الأوسط ليس بين العرب واليهود، إنما الصراع الحقيقي هو ما بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب؛ فإذا استطعنا أن نزيح حضارة الإسلام عن ميدان الصراع هان علينا تصفية القضية، وسهل علينا الجمع ما بين العرب واليهود. (2«عودة الحجاب» (1/ 86) د.محمد بن إسماعيل)
  • ويؤكد صليبية الفرنسيين ما قاله «بيدو» وزير خارجية فرنسا، عندما زاره بعض البرلمانيين الفرنسيين، وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في مراكش، فأجابهم: «إنها معركة بين الهلال والصليب». (3المصدر نفسه (1/ 88))
  • وقال الرئيس الأمريكي السابق «بوش» نفسه: «وعلى الرغم من أن الحرب على أفغانستان توشك على نهايتها، فإن أمامنا طريقًا طويلًا ينبغي أن نسيره في العديد من الدول العربية والإسلامية، ولن نتوقف إلى أن يصبح كل عربي ومسلم مجردًا من السلاح، وحليق الوجه وغير متدين ومسالمًا ومحبًّا لأمريكا، ولا يغطي وجه المرأة». في خطاب له أمام الكونجرس، (29/1/200). (4موقع الفوائد)
  • ونشرت النيويورك تايمز في (21/3/2003) أن بوش قال لأحد أصدقائه عندما كان حاكمًا لولاية تكساس: «إن الله يريده أن يترشح للرئاسة، وأنه أوعز للولايات المتحدة بأن تقود حملة صليبية تحريرية في الشرق الأوسط». (5موقع الفوائد)
  • وصرح طاغوت أمريكا «ترامب» أثناء حملته الانتخابية في الترشح للرئاسة الامريكية بعدائه الصريح للإسلام كدين حيث قال فض الله فاه: «إنه يعتقد أن الإسلام يكره الأمريكيين، وإنه من الصعب التفريق بين الإسلام والإسلام المتطرف». (6موقع مزمز)

الوصية الثانية:

الثبات الثبات

إذا تبين لنا حقيقة المعركة وأنها بين الحق والباطل، بين حزب الله وحزب الشيطان؛ فإن هذا مما يزيد المؤمنين القائمين بنصرة الدين ثباتًا على الحق وتمسكًا به وقوة في الانتماء إليه؛ ولكن مع هذا فقد يعتري بعض النفوس المؤمنة وهي تواجه شراسة الباطل وبطشه ومكره وقوته التي تزيد يومًا بعد يوم بعض الضعف الذي يأتي من تسلط شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، مما ينشأ عنه ضعف الصبر والثبات على الحق.

وهنا أذكر نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين من أهل السنة بعدة أمور تعين بإذن الله تعالى على الصبر والثبات على الدين.

أمور تعين المؤمن على الثبات

الأمر الأول: التفويض الى الله

تفويض الأمور إلى الله تعالى والاستعانة به وحده والتبرؤ من الحول والقوة، وكثرة الدعاء والتضرع بين يديه سبحانه؛ وذلك بسؤاله الثبات والهداية للحق والموت عليه.

الأمر الثاني: الصبر لله وبه ومعه

إن الصبر النافع الذي يثبت الله عز وجل به أهل الإيمان هو ما قام بالله، ولله، ومع الله.

ويشرح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المقومات فيقول :

فالأول: صبر الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصبّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127] يعني: إن لم يصبرك هو لم تصبر.

والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض.

والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية، صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبُها وينزل معها أين استقلت مضاربها.

فهذا معنى كونه صابرًا مع الله؛ أي: قد جعل نفسه وقْفا على أوامره ومحابّه، وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين. (7مدارج السالكين» (2/ 156-157))

الأمر الثالث: ربط القلوب بالجزاء الأخروي؛ الجنة

ربط القلوب بالله تعالى ويقين المؤمن القائم بأمر الله ونصرة دينه بما أعده سبحانه للقائمين بنصرة الحق من الرضوان والنعيم المقيم في جنات الخلد، والتطلع إلى هذه الغاية وحدها وعدم التطلع إلى أي شيء في هذه الدنيا.

وهذا ما أنشأه القرآن في قلوب الرعيل الأول الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه، وكان مما يحفزهم على الصبر والتضحية، وعَدَهم برضا الله تعالى وجنته؛ فهذا عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يعذبه المشركون مع أمه وأبيه كان يقول لهم «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». (8رواه الحاكم (5646)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 140)، وحسنه الألباني في «تحقيق فقه السيرة للغزالي» (ص103))

وعندما قال الأنصار في بيعة العقبة: ما لنا إن بايعناك على ذلك..؟ قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «لكم الجنة». (9رواه أحمد (3/ 322)، والحاكم (3/ 624)، وقال: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي)

ولم يعدْهم صلى الله عليه وسلم بشيء في هذه الدنيا حتى ولو كان التمكين لهم في الأرض والنصر على الكافرين، وقد حصل لهم ذلك.

هذا ما ينبغي أن يوطّن عليه أهل الطائفة المنصورة أنفسهم فلا يلتفتون إلى شيء من هذه الدنيا الفانية، وإنما ينتظرون توفية الأجر يوم القيامة قال تعالى: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. [آل عمران: 185]

وعندما تستحوذ هذه المعاني على أنصار الله عز وجل؛ فإنها تكون من أعظم أسباب الثبات على الحق والتضحية في سبيله، ولا يبالون حينئذ بما يصيبهم في سبيل الله عز وجل؛ ولا يفتّ في عزائمهم؛ إذا لم يروا نتيجة كفاحهم بالتمكين لهذا الدين، فحسْبهم أنهم أرضوا ربهم وجاهدوا في سبيله ابتغاء مرضاته.

من معاني سورة البروج

وعن هذه المعاني يقول سيد قطب رحمه الله تعالى، وهو يعلق على قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج:

“هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله، وموقف الداعية أمام كل احتمال؛ لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات: شهد مصارع قوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب، وقوم لوط، ونجاة الفئة القليلة العدد، مجرد النجاة، ولم يذكر القرآن للناجين دورًا بعد ذلك في الأرض والحياة.

وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه قد يريد أحيانًا أن يعجل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك، وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده، ونجاة موسى وقومه، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم… وهذا نموذج غير النماذج الأولى.

وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وانتصار المؤمنين انتصارًا كاملًا، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصارًا عجيبًا، وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمنًا على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط، من قبل ولا من بعد وشهد – كما رأينا – نموذج أصحاب الأخدود…

وشهد نماذج أخرى أقل ظهورًا في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث، وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون.

ولم يكن بدٌّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود، إلى جانب النماذج الأخرى، القريب منها والبعيد ولم يكن بدٌّ من هذا النموذج الذي يمثله حادث الأخدود إلى جانب النماذج الأخرى القريب منها والبعيدة؛ لم يكن بدٌّ من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون، ولا يؤخذ الكافرون!

ذلك ليستقر في حس المؤمن ـ أصحاب دعوة الله ـ أنهم قد يُدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله، وأن ليس لهم من الأمر شيء، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله!

إن عليهم أن يؤدوا واجبهم، ثم يذهبوا..

وواجبُهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصْدُقوا الله في العمل والنية، ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء، وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه، وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينةً في القلب، ورفعةً في الشعور، وجمالًا في التصور، وانطلاقًا من الأوهاق والجواذب، وتحررًا من الخوف والقلق، في كل حال من الأحوال.

وهم يقبضون الدفعة الثانية في الملأ الأعلى ذكرًا وكرامة، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة.

ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حسابًا يسيرًا ونعيمًا كبيرًا، ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعًا، رضوان الله عز وجل…

لقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدّها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع ـ وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء ـ إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنظر إلا إلى الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله، قلوبًا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصَب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت؛ بلا جزاء في هذه الأرض قريب، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !

حتى إذا وجدت هذه القلوب، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل ـ أي: مقابل ـ وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للفصل بين الحق والباطل..

حتى إذا وجدت هذه القلوب، وعلم الله منها صدق نيَّتها على ما بايعَت وعاهدَت، آتاها النصر في الأرض، وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من الغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقًّا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه». (10«معالم في الطريق» (ص183-185) باختصار يسير)

الانشغال الواجب للقائمين بأمر الله

إن ما ينبغي أن ينشغل به القائمون بأمر هذا الدين ويكون هو همهم الأول؛ التمسك بالحق والثبات عليه والاطمئنان ببقائهم على الصراط المستقيم الذي يرضي الله عز وجل، وأن يحذروا الزيغ عنه..

أما متى يأتي نصر الله ومتى ينتقم الله من الظالمين الطغاة؛ فهذا مما لا ينبغي أن يشغلوا أنفسهم به؛ لأن ذلك مرده إلى الله عز وجل وإلى علمه وحكمته ورحمته والله يعلم ونحن لا نعلم.

ولتقرير هذا المعنى نقف مع قول الله عز وجل: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. (الزخرف: 41-43)

ما أعظم هذه الآيات لمن تدبرها! وما أنفعها اليوم للدعاة والمجاهدين وهم يواجهون الصراع والمساومات!

إن الله تعالى في هذه الآيات يوصي نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الدعاة والمجاهدين بألا يضعفوا ويتنازلوا أمام كيد الأعداء وتسلطهم وعدم الانتقام منهم..

فإن لله عز وجل الحكمة في تقدير الوقت الذي ينتقم فيه من الكافرين وأمر النصر وتوقيته هو إلى الله تعالى، ولا ينبغي أن ينشغل به المجاهدون في سبيل الله تعالى أو أن يستعجلوه قبل أوانه بإعطاء الأعداء تنازلات على حساب العقيدة وأصولها.

وأما الانتقام من الكافرين فهو أمر حتم يقدره الله تعالى في وقته المناسب فهو إلى الله سبحانه..

وأما عباده المجاهدون فعليهم الثبات على هذا الدين والاستمساك بوحي الله عز وجل، وأن يكون هذا هو همهم الشاغل، وأن يحذروا أن يضعف استمساكهم أمام ضغوط الكفار وتسلطهم وتأخر هلاكهم: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

الوصية الثالثة

دعوة لنصرتهم

أوصي نفسي وإخواني من عامة أهل السنة أن ينضموا إلى ركب الطائفة المنصورة القائمة بأمر هذا الدين ونصرته، كلٌّ بما يقدر عليه وبما فتح الله عليه من المواهب والقدرات؛ حيث إن جذوة المعركة مع الباطل وأهله قد اشتدت واستَعَرَ لهيبها، وقد وحّد الباطل جهوده بمختلف فئاته وأسرج خيله وبذل كل ما في وسعه لمحاربة الحق وأهله محاولةً منه في تبديل الدين وإطفاء نور الله عز وجل وأنَّى له ذلك «فالله مولانا ولا مولى لهم».

وأحسب والله أعلم أن المعركة سيشتد أوارها وسعيرها كلما تقدم الوقت؛ فلا عذر إذن لقاعد متفرج لا يهمه أمر هذا الدين..

فإن وجد أحد نفسه قد ضعفت عزيمته وأبت إلا الكسل وإيثار الراحة والدَّعة على البذل والتضحية في سبيل نصرة هذا الدين، فلا أقل من أن يبذل لهذه الطائفة ولاءه القلبي ودعاءه لهم والتخذيل عنهم والفرح بما يفتحه الله على أيديهم من خير وبما يغلقه بدعوتهم من شر..

وأن يحذر من أن يستخفه المبطلون بأعوانهم وإعلامهم، فيستخدموه أو يوظفوه في معاداة الطائفة المنصورة وخذلانها ولو بكلمة واحدة.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أنصار دينه الذين ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، اللهم لا تحرمنا فضلك.

خاتمة

فهذا ما منَّ الله عز وجل به من كتابة حول هذا الموضوع الجلل «الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر» فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل فهو المتفضل والمانُّ به، وأحمده على ذلك، وما كان فيه من خلل وخطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه.

أسأل الله عز وجل أن يكون خالصًا لوجهه وأن ينفع به كاتبه وقارئه وسامعه.

والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

  1. «معالم في الطريق» (ص185، 186) باختصار.
  2. «عودة الحجاب» (1/ 86) د.محمد بن إسماعيل.
  3. المصدر نفسه (1/ 88).
  4. موقع الفوائد.
  5. «موقع الفوائد».
  6. «موقع مزمز».
  7. «مدارج السالكين» (2/ 156-157).
  8. رواه الحاكم (5646)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 140)، وحسنه الألباني في «تحقيق فقه السيرة للغزالي» (ص103).
  9. رواه أحمد (3/ 322)، والحاكم (3/ 624)، وقال: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي.
  10. «معالم في الطريق» (ص183-185) باختصار يسير.

لقراءة بقية السلسلة:

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (1-8) محورية الولاء والبراء

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (2-8) مرويات الحديث وبيان تواتره

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (3-8) لا يخلو منها زمان، وهي على الحق

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (4-8) ظاهرين، صابرين على اللأواء

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (5-8) وصْفُهم في كتاب الله

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (6-8) ارتباطها بالأحداث المعاصرة

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (7-8) وجوب الانتماء اليهم

 

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

التعليقات غير متاحة