يقول المؤرخ البريطاني ستيفن رانسيمان: “ما من معاهدة لقيت ما لقيته هذه المعاهدة مباشرة من الرفض من المسلمين والمسيحيين؛ إذ جزع العالم الإسلامي، ففي دمشق لقي الناصر متعة في أن يُعلن الحداد العام لما تعرّض له الإسلام من خيانة، بل إنّ أئمة الكامل جهروا بأنه أساء إلى الإسلام، وما قام به الكامل من ردّ قاصر بأنه لم يتنازل إلا عن دور وكنائس خربة، بينما استخلص للإسلام مشاهده كاملة ولم يكن إلا سلوى تافهة، كما أن قوله بأنه لا زالت للمسلمين السيادة العسكرية في الإقليم لم يكن فيما يبدو عذرا كافيا”.
صُلح يافا
صُلح يافا بين السلطان الأيوبي محمد الكامل وامبراطور ألمانيا وصقلية فردريك الثاني وتسليم القدس لفردريك الثاني.
إذ أثبت تاريخ الحروب الصليبية التي دارت رحاها على بلاد الشام لمدة قرنين من الزمان أن كل ما ترتب على المفاوضات بين المسلمين والصليبيين كانت في الغالب لصالح الصليبيين.
وقد تعاون الأخوة الثلاثة أبناء العادل ، السلطان الكامل محمد صاحب مصر مع أخويه المعظم عيسى ملك دمشق والقدس وما يتبعهما والأشرف موسى ملك الجزيرة الفراتية وخلاط. وترتب على تعاونهم هزيمتهم للحملة الصليبية الخامسة التي غزت مصر بعد أربع سنوات من القتال ، رغم أن أعداد جيوش الحملة زادت على مئة وستين الفاً. وكان ذلك النصر سنة ٦١٨ هجرية.
الملك الكامل الأيوبي يتفق على تسليم القدس للصليبيين
ولم يلبث الخلاف والنزاع أن دب بين الإخوة – وسبب الخلاف وتفاقمه موضوع يطول شرحه – فاتفق الكامل محمد مع أخيه الأشرف موسى ضد أخيهما المعظم عيسى الذي شعر أنه أصبح مطوقاً من جانب أخويه فراسل سلطان الدولة الخوارزمية جلال الدين منكبرتي وتحالف معه ضد أخويه. وبدأ جلال الدين يهاجم ممتلكات الاشرف في الجزيرة. عندئذ راسل الكامل محمد ملك ألمانيا وصقلية فردريك الثاني – حفيد فردريك بربرسا – وطلب مساعدته على أخيه المعظم ووعده بإعطائه القدس مقابل مساعدته له ، وكانت البابوية قد أصدرت قرار الحرمان ضد فردريك لتقاعسه عن القيام بحملة صليبية لاحتلال القدس مرة أخرى.
الحملة الصليبية السادسة
وقد وصل فردريك إلى عكا في شوال سنة 6٢٥ هجرية بحملة صغيرة مكونة من مئات الفرسان. وكان الملك المعظم عيسى قد توفي قبيل وصوله وأعلن ابنه الناصر داوود طاعته لعمه السلطان الكامل. فوقع الكامل في موقف حرج مع فردريك ، فلم يعد في حاجة لمساعدته بعد موت أخيه. ولكنه هو الذي استدعاه ووعده ومنَّاه بالقدس. وقد جرت مفاوضات طويلة بين الجانبين وكان السفير المتنقل بين الكامل وفردريك هو فخر الدين بن شيخ الشيوخ وزير الكامل، الذي انعقدت بينه وبين فردريك صداقة متينة ، وذكرت المصادر أن فردريك كان يبكي أحياناً خلال المفاوضات ويرجو أن ينعم عليه الكامل بالقدس ، وأنه ليس له هدف في القدس سوى حفظ مكانته في الغرب ورفع قرار الحرمان عنه…
من بنود صلح يافا
وأخيرا ًتوصَّل الجانبان إلى اتفاقية صلح يافا في ٢٨ ربيع الأول سنة ٦٢٦ هجرية/ ١٨ فبراير سنة ١٢٢٩م
وكانت نصوصه كما يلي :
– مدة الهدنة ” الصلح ” بين الجانبين عشر سنوات.
– أن يأخذ الصليبين بيت المقدس وبيت لحم والناصرة.
– أن يبقى سور بيت المقدس خراباً فلا يُجَدَّد.
– تكون جميع القرى التابعة للقدس بأيدي المسلمين ويحكمها والٍ مسلم يُقيم بالبيرة شمال القدس.
أن يكون المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين ولا يدخلها الفرنج إلا للزيارة فقط.
– حرية العبادة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء.
– منحت الاتفاقية الصليبيين عدداً من القرى فيما بين عكا ويافا وبين اللد وبيت المقدس لضمان سلامتهم أثناء تنقلهم إلى المدينة المقدسة.
– تعهد الامبراطور فردريك الثاني من جانبه للسلطان الكامل بعدم الاشتراك أو المساعدة في أي حملة صليبية قادمة للهجوم على ممتلكات السلطان ، بل وعرقلة أي جُهد صليبي ضد ممتلكاته.
لا يُقال أن السلطان أعطى الفرنج القدس
ولم يغفر المسلمون المعاصرون للسلطان الكامل هذه الفعلة الشنيعة ، حتى أن أحد قادة جيشه ويُدعى سيف الدين بن أبي زكري حذَّره من مغبة تسليم بيت المقدس والتفريط في حقوق المسلمين ونصحه قائلاً : ( ابق دمشق على ابن أخيك الناصر واطلبه واطلب أخاك الملك الأشرف ، وعسكر حلب ، ونقاتل هذا العدو فإما لنا وإما علينا ، ولا يُقال أن السلطان أعطى الفرنج القدس) ولم يجد ابن أبي زكري من الكامل أذناً صاغية بل غضب عليه واعتقله ” وسيره إلى مصر فحبسه بها “.
صراخ المسلمين
وحينما بعث الكامل ينادي في القدس بخروج المسلمين وتسليمه للصليبيين ” وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء وعظم ذلك على المسلمين وحزنوا لخروج القدس من أيديهم ، وأنكر وا على الكامل هذا الفعل واستشنعوه منه ، إذ كان فتح هذا البلد واستنقاذه من الكفار من أعظم مآثر عمه صلاح الدين “.
وعبَّر الأئمة والمؤذنون الذين في المسجد الأقصى والصخرة ، وبقية مساجد القدس عن سخطهم وسخط جميع المسلمين بصورة مدوية ومؤلمة ، فأخذوا ستائر المسجد وقناديله الفضية وآلاته وحضروا إلى باب خيمة السلطان “وأذَّنوا على بابه في غير وقت الأذان” فأمر بسلب ما معهم وزجرهم أعوانه وطردوهم خارج معسكره.
أخطأ فيما فعل
وقد زاد الكامل الطين بلة حين طلب عدم رفع الأذان في المدينة أثناء وجود الإمبراطور احتراما له! الأمر الذي أثار استياء المسلمين وحتى فريديك الثاني نفسه لسخرية القدر، إذ يروي المقريزي أن فريديك الثاني قال لشمس الدين: “أخطأ فيما فعل، والله إنه كان أكبر غرضي المبيت في القدس وأن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل”.
وعم السخط العارم بلاد المسلمين بسبب تسليم بيت المقدس للصليبيين ” فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام واشتدت العظائم وأُقيمت المآتم “.
وفي دمشق خطب المؤرخ سبط بن الجوزي في الجماهير المحتشدة في الجامع الأموي وذكر مكانة بيت المقدس في نفوس المسلمين وفضائله وماجرى عليه ومما قاله: (انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين ، يا وحشة المجاورين ، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة ، وكم جرت لهم على تلك المساجد من دمعة ، تالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وفت ، ولو تقطعت قلوبهم أسفاً لما شفت ، أحسن الله عزاء المؤمنين ، يا خجلة ملوك المسلمين “.
كما ألقى قصيدة تائية جاء فيها قوله :
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
على قبة المعراج والصخرة التي
تفاخر ما في الأرض من صخرات.
فاشتد البكاء والعويل بين جموع المسلمين داخل الجامع الأموي.
منافقو السلطان!
على الجانب الآخر، وكما في كل زمان ومكان كان هناك منافقو السلطان الذين كانوا بمنزلة الأذرع الإعلامية يبررون له تسليمه أولى القبلتين دون ندم أو خجل، رأوه -بزعمهم- من منطق المصلحة المتحققة العامة للمسلمين، فهو كما رأوا دفع ضرر مخافة تحقق كارثة، ورأوا أنه يحق لإمام المسلمين وملكهم أن يفعله وفقا لما يراه، فمنطق أقل الخسائر أو حتى المصلحة المتحققة ذكره كل من المؤرخ والقاضي ابن أبي الدم الحموي ت642هـ والمعاصر لهذه الأحداث، وكذلك المؤرخ والقاضي ابن واصل الحموي الشافعي ت697هـ.
فيقول ابن أبي الدم الحموي في مختصر تاريخه مفصّلا ومؤيدا تسليم بيت المقدس لفردريك: “كان الانبروز (الإمبراطور) طاغية الفرنجة وعظيمهم خرج بجمع كثير إلى الجزائر والسواحل، وخيف على بلاد الإسلام منهم، فاجتهد السلطان الملك الكامل رأيه وصالحهم صلحا تاما رآه مصلحة للمسلمين وغنيمة لهم، فكان راعي هذه الأمة المحمدية، وسلطان الملة الإسلامية، ومن أعزّ الله تعالى به الدين وأهله، والمأمون عليهم، والناصح المشفق عليهم، ففعل ما رآه مصلحة وغبطة ترجّحت في نظره راعاها، وصالح الفرنج على أن يسلّم إليهم البيت المقدس حرسه الله تعالى وحده، من غير تسليم شيء من أعماله ولا بلاده قليلا ولا كثيرا، وشرط عليهم أن لا يجددوا فيه شيئا ولا سورا ولا دورا ولا يتجاوزوا خندقه، وأن تقام فيه الجمعة للمسلمين المقيمين به، ولا يُمنع مسلم من زيارته كيف أراد، ولا يؤخذ من زائر مال أصلا”.
المصدر
- صفحة الدكتور علي محمد عودة
- خيانة بالنهار.. كيف باع السلطان القدس بطبق من ذهب؟، محمد شعبان أيوب.
اقرأ أيضا
الاضطراب العقدي والسياسي .. وضياع الطريق إلى القدس
مفتاح القدس هو نفس مفتاح المنطقة