لا أعرف امرأة نالت من حسن السيرة وطيب الأحدوثة ما نالته فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وما أعرف امرأة أحدثت في تاريخ الإسلام من أثر مثل الذي أحدثته فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
الزهراء …هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟
إنها ابنة سيد المرسلين … سيد ولد آدم … محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – ومن كان أبوها رسول الله فقد حازت الفخار كله ونالت من المجد ذروته …..
وعلى هذا الشرف الباذخ الذي دونه كل شرف فقد أكرم الله الزهراء بفيض آخر من الشرف والفخار.
فهي أيضاً ابنة خديجة أول النساء إيماناً بالإسلام.
وهي أيضاً زوج علي بن أبي طالب الذي كرمه الله بالإسلام صبياً، فما انحنى لوثن ولا سجد لصنم … وهو المجاهد مع النبي منذ نعومة أظفاره .. وهو خليفة المسلمين الرابع رضي الله عنه وأرضاه وهي أيضاً أم الحسنين… سیدا شباب أهل الجنة …
هذه هي الزهراء في جلال شرفها وعظيم قدرها وجليل منزلتها …
فاطمة تشهد معاناة أبيها ﷺ
كان عمرها خمس سنوات عندما شرف الله أباها بالنبوة الخاتمة … وقد تفتحت مداركها على أبيها وهو يعاني من صد قريش وتعنت سادتها واعتداء سفهائها على شخصه الكريم، كانت ترى ما يلقاه أباها من عنت، فتأسى لذلك، وتحاول أن تكون عوناً له على أعدائه … ولكن أي عون كان يمكن أن تقدم فتاة صغيرة تحبو نحو العاشرة من عمرها …..
كان أقسى ما رأته فاطمة ذلك المشهد الذي أحزنها الحزن كله … أباها يصلي في ساحة الكعبة فيسجد، فيأتي سفيه مكة عقبة بن أبي معيط فيلقي على رأسه بسلي جزور بين قهقهات قريش وضحكاتها، ويبقى رسول الله ساجداً إلى أن تتقدم فاطمة وتلقي عنه هذا القذر الذي ألقاه عليه عفن العقل الجاهلي البغيض …
وينهض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويلتفت إلى قريش، وينظر إليهم نظرة ثاقبة صارمة، ثم يدعو عليهم: “اللهم عليك الملأ من قريش … اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف”.
ويخنس الملأ من قريش … خوفاً من دعاء محمد … فهم يعرفونه صادقاً…وما جربوا عليه كذباً قط فهم في قرارة أنفسهم يخشون دعوته ويخافون عاقبتها …..
ويشاء الله أن تطوى الأعوام، وتدور الأيام، وتقع معركة بدر وترى فاطمة بأم عينها هؤلاء النفر مجدلين صرعى حول ماء بدر …. أصابتهم دعوة الرسول وجنوا عاقبة ما قدموا من شر وسوء وجهالة.
مكانة فاطمة عند رسول الله ﷺ
كانت فاطمة في ميدان الدعوة منذ نعومة أظفارها… تواكبها خطوة خطوة، وتساهم فيها بالقدر الذي يؤهلها له سنها وبالقدر الذي تؤهلها له أنوثتها وبالقدر الذي يؤهله لها موقعها في بيت النبوة.
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محباً لفاطمة، شديد الحب لها، فقد كانت صغرى بناته، وبقيت رفيقة أمها وأبيها إذ فارقت أخواتها الثلاث منزل الأسرة إلى منازل الزوجية…
وكان كلما أراد أن يتمثل بأحب الناس إليه تمثل بذكرها، وكان كلما أراد أن يضرب لقريش مثلاً بأحب الناس إليه ذكر فاطمة بنت محمد …
فعندما أنزل الله عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين …) جمع قريشاً وقال لهم: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً ….. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئاً…. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً.
نعم يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً.
ما أعظم هذه الكلمة وما أروع دلالتها … ولا شك أن فاطمة قد سمعتها …. فوقعت من نفسها موقعاً عظيماً ….
وعندما سرقت المرأة المخزومية، وحاولت قريش أن تستشفع لها عند رسول الله بأسامة بن زيد غضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقام في القوم خطيباً يؤنبهم على تصرفهم … وكان مما قاله في خطبته … وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها…..
ومرة أخرى …. لو أن فاطمة بنت محمد…..
لو كان السارق أعز الناس إلى قلب الرسول ما توانى أن ينفذ فيه حكم الله…
هذه هي عدالة الإسلام المطلقة … تنفذ أحكامها على الشريف مثلما تنفذ على السوقة سواء بسواء….
وهل هناك من هو أعلى شرفاً من فاطمة بنت محمد؟ ومع ذلك لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد بدها …..
يا لها من عدالة سامية ….ويا له من شرف لفاطمة بنت محمد …..
فاطمة واحدة من أربع من خير نساء العالمين
عاشت فاطمة في بيت النبوة ….فكانت تربيتها تربية قرآنية، فتمثلت في شخصيتها كل المثل السامية التي جاء بها الإسلام ..
كانت ترى وتسمع وتحاول أن تشارك في الأحداث الجسام على صغر سنها فكان لها في حياة أبيها مكانة سامية. .. جد سامية حتى قال عنها – عليه صلوات الله وسلامه -: «إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، ويريبني ما رابها».
وقال في حقها أيضاً: «خير نساء العالمين أربع: مريم وآسية وخديجة وفاطمة».
إن فاطمة واحدة من أربع من خير نساء العالمين.
ولها ميزة في هذا فهي أيضاً ابنة واحدة من هؤلاء الأربع اللواتي من خير نساء العالمين….
شرف باذخ متطاول لا يرقى إليه شرف ولا يدانيه شرف مهما علا….
هجرة فاطمة الزهراء إلى المدينة
وتتوالى أحداث مكة، ويشتد الأذى بالمسلمين، وتحاول قريش جهدها لتطفىء نور هذا الدين …. ويتوالي فشل قريش، فتزداد أذى للمسلمين، ويأذن الله لرسوله بالهجرة .. فيترك أحب بلاد الله إليه وينزل دار الهجرة …. المدينة المنورة …..
وتتخلف فاطمة وأختها أم كلثوم في بيت النبوة بمكة، ينتظرن أمر رسول الله لهن بالهجرة… ولم يلبث الأمر أن جاءهن، فيتجهزن، ويغادرن منزلهن بعيون دامعة وقلوب آسية. .. ويعجبن لقسوة قريش على أبنائها ممن اختاروا طريق الهداية …. ولعل هذا التعجب أذهلهن عندما لحق بهن واحد من سفهاء مكة يدعى الحويرث بن نقيذ فنخس بهن بعيرهن، فهوين على الأرض وقد شاهدن بأعينهن انحطاط الجاهلية وتمادي الكفر والضلال….
وتصل فاطمة إلى المدينة مجهدة، تشكو مما أصابها من اعتداء سفيه قريش، وتشكو من وعثاء الطريق، ويشتد غضب رسول الله على من أذى ابنتيه، فيهدر دمه….
الجاهلية لا تعرف شهامة ولا مروءة
ولم يكن اعتداء قريش على فاطمة حادثاً فريداً، فقد تكرر هذا الحادث أكثر من مرة ومع أكثر من امرأة ….
اعتدت قريش على سمية بنت خباط…. وقتلها أبو الجهل والضلال دون حياء أو خجل . .
واعتدت قريش على أم سلمة، وفرقت قسوتها بينها وبين زوجها، بل إن قريشاً بقلوبها الصخرية قد شقت طفل أم سلمة شقين على مرأى منها ومسمع !
واعتدت قريش على زينب بنت محمد عندما عزمت على الهجرة…. وآذتها في حملها …. وكان ذلك سبب مرضها ثم موتها بعد.
وقد حاول بعض المدافعين عن جاهلية قريش أن يصفها بصفات أشد ما تكون عنها بعداً، ومنها شهامتها وترفعها عن الاعتداء على النساء… كانت قريش أشد ما تكون بعداً عن الشهامة والمروءة في عدائها لهذا الدين برجاله ونسائه …. وكذلك الجاهلية في كل عصر … لا ترقب في مؤمن ولا مؤمنة إلا ولا ذمة ولا تراعي شرفاً في العداوة ولا مروءة في المعاملة.
إن الجاهلية هي الجاهلية …. أكانت جاهلية قريش أم جاهلية اليهود والنصارى أم جاهلية الحضارة الحديثة…. إن للجاهلية سمات وصفات لم تختلف على مر العصور …. وستبقى الجاهلية هي الجاهلية مهما زينوها للناس ومهما أسبغوا عليها من زيف الصفات!
فاطمة سيدة البيت النبوي
وتعيش فاطمة في كتف أبيها النبي صلى الله عليه وسلم، وتسعد فاطمة برعاية شؤون البيت النبوي …. فقد كانت فاطمة سيدة البيت النبوي تديره وترعى شؤونه، وقد وصل الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة ولما يتزوج من عائشة، فكانت فاطمة راعية بيته ومديرة شؤونه فيه …..
وكبرت فاطمة …. فقاربت الثامنة عشرة عندما دخلت عائشة بيت النبوة؛ ولا بد أن فاطمة قد شعرت أن رعاية البيت النبوي لا بد أن تؤول إلى السيدة الشابة القادمة من بيت الصديق…. ولا بد أن ذلك أدخل على نفسها شيئاً من الحزن ذلك لأنها كانت فخورة بقيامها على خدمة أبيها ورعاية شؤون البيت النبوي العظيم….
الخاطبون أقبلوا على رسول الله يطلبون فاطمة
وأقبل الخاطبون على الرسول – صلى الله عليه وسلم – يطلبون فاطمة …. تقدم إليها أبو بكر وتقدم عمر، ولكن رسول الله ردهم رداً لطيفاً …. وتحدث الناس بأمر فاطمة ومن تقدم لخطبتها …. وتحدث الناس إلى علي بن أبي طالب وشجعوه على التقدم لخطبة فاطمة ….
قال ابن أبي طالب – رضي الله عنه – : بعد أبي بكر وعمر؟ وأخذ الناس يذكرون له قربه من النبي وقرابته له حتى تشجع وذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خاطباً …
وعندما ضمه مجلس النبي غلبه الحياء فلم يذكر حاجته.
وأدرك رسول الله ما ينتاب علياً من حرج فبادره بقوله : ما حاجة ابن أبي طالب؟
قال علي : ذكرت فاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .
قال رسول الله : مرحباً وأهلا …..
مرحباً وأهلاً… كانت هذه الكلمات برداً وسلاماً على قلب علي …. فلقد فهم منها، وكذلك فهم أصحابه أن رسول الله يرحب به زوجاً لابنته وواحداً من الأسرة والأهل…. وهل كان علي إلا واحداً من أسرة النبي وأهله منذ صغره حتى يومه هذا الذي جاء به خاطباً فاطمة؟
كانت تلك مقدمة الخطبة عرف علي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ يرحب به زوجاً لابنته فاطمة، فلما كان بعد أيام ذهب إلى رسول الله وخطب إليه فاطمة.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما تصدقها؟
قال: ما عندي ما أصدقها !
قال عليه السلام: فأين درعك العظمية التي كنت منحتك؟
قال هي عندي .
قال سيد المرسلين: أصدقها إياها.
البساطة في الزواج الإسلامي
ولنا وقفات عند هذا المشهد الرائع والموقف الفذ…..
علي بن أبي طالب جاء خاطباً بنت نبي الله دون أن يفكر بمهر يقدمه لها …. ذلك لأنه لم يكن يظن أن مسألة المهر سوف تكون عقبة في طريق الزواج، فالزواج في دين الإسلام مهره الدين والخلق، وليس المهر المادي إلا رمزا يمر خلاله الرباط الزوجي المقدس: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه”.
وماذا قال رسول الله لعلي عندما سمعه يقول: ما عندي ما أصدقها؟ هل رده حتى يؤمن مهراً …..
هل أنبه لتقدمه للخطبة وهو فقير لا يملك من حطام الدنيا قطميراً!
لم يحصل هذا ولا ذاك…. بل سأله الرسول بلطف أبوي : وأين درعك الحطمية التي كنت منحتك؟
يسأله رسول الله عن درع كان منحه إياها …..
ولما رد علي بأنها موجودة أمره الرسول أن يقدمها مهراً لفاطمة.
وهكذا قدم علي مهر فاطمة درعاً هي في الأصل هدية من أبيها.
بهذه البساطة وبهذا اليسر كانت تجري أمور الزواج في عهد رسول الله وكانت بناته وزوجاته وهن أكرم نساء العالمين مثالاً لذلك …..
وبقيت البساطة في الزواج الإسلامي سارية حتى عقدها أولئك الذين أخذوا يبالغون في المهور حتى غدت العقبة الكؤود في وجه إحصان المسلمين والمسلمات …..
وآلت الدرع الحطمية إلى فاطمة، وهي في الأصل هدية أبيها لابن عمها علي .. وسوف تعود من بعد إلى علي هدية أو عارية من فاطمة، ليقاتل بها أعداء الله، وإلا فماذا تفعل فاطمة بدرع لا يحتاجها إلا الرجال في ميادين القتال؟
جو العرس الإسلامي
وعندما جاء موعد البناء بفاطمة باع علي بعيره وبعض متاعه بأربعمائة وثمانين درهماً استعداداً لهذا الحدث العظيم، ولما أبلغ الرسول بما فعل قال له: اجعل ثلثين في الطيب وثلثاً في المتاع….
والرسول كان شديد الحب للطيب فهو على طيب رائحته – صلى الله عليه وسلم – كان يحب الطيب لنفسه ويحبه للمسلمين. … كان ـ عليه السلام – شديد الحرص على أن يشيع في أمته طيب الرائحة بالإضافة إلى طيب السيرة والذكر. … من هنا أوصى علياً أن يكثر يوم عرسه من الطيب.
وقال عليه السلام لعلي أيضاً: يا علي …. إنه لا بد للعروس من وليمة .
وهنا ينهض المجتمع المتكافل بجزء من تكاليف العرس، فقال سعد – أحد الأنصار – : عندي كبش… ونهض جماعة من الأنصار فأحضروا آصعاً من ذرة…. وأقاموا وليمة علي وفاطمة….
طيب وروائح زكية تشيع في يوم الفرح والسرور.
ووليمة يجتمع عليها الناس ليشاركوا العروسين أفراحهما.
هذا هو جو العرس الإسلامي…. فلماذا أضعناه …. أو أضاعه كثير منا؟
رسول الله الأب الإنسان يبارك زواج ابنته
وجهز رسول الله ابنته بسرير ووسادة من أدم حشوها ليف وتور1(1) التور: إناء للشرب، والأدم: الجلد. من أدم وقربة ….وجاء القوم ببطحاء2(2) البطحاء: خليط من الرمل والحصى الصغير تفرش به الأرض. فطرحوها في البيت.
ولما كانت ليلة البناء قال رسول الله لعلي: لا تحدث شيئاً حتى تلقاني .
وذهب رسول الله إلى العروسين، فدعا بإناء فتوضأ فيه ثم أفرغه على علي ثم قال: «اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما».
ودعا رسول الله ابنته فاطمة، فجاءت تمشي على استحياء …. تعثر في ثوبها من شدة الحياء…..
ونضح رسول الله عليها من ذلك الماء. … ودعا لها…. ثم قال: «يا فاطمة، والله ما ألوت أن زوجتك خير أهلي».
هذا رسول الله الأب الإنسان يبارك زواج ابنته، ويؤكد لها أنه اجتهد في الاختيار لها، وأنه اختار لها خير أهله …..
لقد كان زواج علي وفاطمة حدثاً تاريخياً عظيماً …. فما من زواج أحدث في التاريخ من أثر مثلما أحدثه هذا الزواج…. وصفحات التاريخ الإسلامي مليئة بالآثار التي انتشرت في الأرض يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً ….
كان هذا البيت الذي ذهب تأثيره في التاريخ بعيداً بيتاً بسيطاً، عاش الزوجان ولم يكن في بيتهما من المتاع سوى فراش من أدم وسقاء وجرتين، كما جاء في إحدى الروايات وكان الزوجان يباشران شؤون منزلهما بأنفسهما، وكان ذلك يرهقهما، وعندما علما أن سبياً جاء إلى المدينة قال علي لفاطمة: والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه ….. قالت فاطمة: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي….
ما جاء بك يا بنية؟
وذهبت فاطمة لتطلب من أبيها خادماً يخدمها وزوجها.
وصلت فاطمة الى بيت أبيها النبي – صلوات الله وسلامه عليه ـ وجلست إلى جانبه ولم تتكلم.
قال لها رسول الله: ما جاء بك يا بنية؟
واستحيت فاطمة أن تسأله الذي جاءت من أجله، قالت: جئت لأسلم عليك.
وعادت فاطمة إلى بيتها.
قال لها زوجها: ما فعلت؟
قالت : استحييت أن أسأله.
ونهض علي وأخذ بيد فاطمة وذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم …
قال علي : والله يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وهذه فاطمة قد طحنت حتى مجلت يداها، وقد أتى الله بسبي فأخدمنا .
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم ..
وعاد علي وعادت فاطمة ولم يعترضا ولم يحزنا، فقد علما أن رسول الله حريص على رعيته عادل في تصرفه….
وعلم رسول الله أن ابنته وابن عمه في حاجة إلى ما يخفف عنهما عناءهما، فلحق بهما حتى دخل عليهما البيت وقال لهما برفق وحنان دافق: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟
قالا: بلی
فقال: «كلمات علمنيهن جبريل، تسبحان في دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين.
هذا ما أعطى محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – ابنته وزوجها ….. أعطاهما حبلاً موصولاً بالله، إذا قاما إلى الصلاة أمسكا به وإذا أويا إلى الفراش تشبثا بعراه …..
ورضي رسول الله عندما رأى علامات السرور والارتياح في وجه ابنته وزوجها ابن عمه ….. وانصرف – صلى الله عليه وسلم ـ من عندهما مطمئناً إلى سعادة البيت الذي يحبه ….. ونام علي ونامت فاطمة كلما سحبا قطيفتهما فغطيا رأسيهما تكشفت أقدامهما، وكلما غطيا أقدامهما تكشف رأساهما… ناما وهما يسبحان الله ويحمدانه ويكبرانه، فيغني ذلك نفسيهما عن طعام الدنيا وعن مغرياتها ….
وخيمت السعادة على بيت فاطمة، فولدت لعلي الحسن والحسين، وولدت له أم كلثوم وزينب.
وفرح الأبوان بالأبناء والبنات كما فرح بهما رسول الله، وكانا وكانتا قرة عين للبيت النبوي الكريم….
ما رأيت ضحكاً أقرب من بكاء
ومضت الأيام تحمل بشائر النصر للدعوة الإسلامية، وتوالت الفتوحات حتى أتم الله للمسلمين فتح مكة، وبفتحها دانت الجزيرة العربية للإسلام …. وكانت فاطمة فرحة بهذه الانتصارات، فما إن تسمع بواحد منها حتى تهرع إلى بيت أبيها تهنئه، فيسر عليه السلام بقدوم ابنته، فيتلقاها بأحسن ما يتلقى أب ابنته، ويداعب أبناءها ويظهر لهم من الود والعطف ما لا مزيد عليه….
وذات يوم زارت فاطمة أباها وكان بينهما حديث أسره الأب لابنته ..
وهذه عائشة أم المؤمنين تقص علينا خبر هذا الحديث.
قالت عائشة – رضي الله عنها – : كنت جالسة عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجاءت فاطمة تمشي كان مشيتها مشية رسول الله، فقال: مرحباً بابنتي … فأجلسها عن يمينه، فأسر إليها شيئاً فبكت، ثم أسر إليها شيئاً فضحكت .
قالت عائشة: ما رأيت ضحكاً أقرب من بكاء… أي شيء أسر لك رسول الله ؟
قالت فاطمة : ما كنت لأفشي سر أبي …
قالت عائشة، فلما قبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سألت فاطمة عن ذلك مرة أخرى فقالت: قال لي أبي إن جبريل كان يأتيني كل عام فيعارضني بالقرآن مرة، وإنه أتاني العام فعارضني مرتين، ولا أظن أجلي إلا قد حضر، ونعم السلف أنا لك، وأنت أسرع أهلي بي لحوقاً.
قالت فاطمة : فبكيت لذلك ثم قال ما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟
قالت فاطمة: فضحكت لذلك …..
وعاشت الزهراء بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ستة أشهر، وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة …..
وما أعرف امرأة نالت من حسن السيرة وطيب الأحدوثة ما نالته فاطمة بنت محمد، وما أعرف امرأة أحدثت في تاريخ الإسلام من أثر مثل الذي أحدثته فاطمة بنت محمد.
ولقد لهج بذكرها المحدثون والمؤرخون وأصحاب السير والأدباء والشعراء.
الهوامش
(1) التور: إناء للشرب، والأدم: الجلد.
(2) البطحاء: خليط من الرمل والحصى الصغير تفرش به الأرض.
المصدر
كتاب: “نساء حول الرسول” أحمد الجدع.، ص21-34.