الدنيا والآخرة عند غير المسلم متناقضان؛ ينبغي ترك إحداهما من أجل الأخرى؛ فمن أراد الآخرة انعزل في الديارات والصوامع، ومن أراد الدنيا تخلى عن القيم والخلق والعبادة. أما في الإسلام فهما في الطريق نفسه.
مقدمة
أدرك المسلمون من مفهوم الإِسلام أن الأرض والسماء حسبة واحدة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر». (1رواه أحمد وغيره بإسنادٍ صحيح)
وأول ما يخطر على البال من هذا الحديث هو هذه العجيبة التي تتميز بها العقيدة الإِسلامية؛ وهي أن طريق الآخرة هو هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق..!
إنهما ليسا طريقين منفصلين؛ أحدهما للدنيا والآخر للآخرة. وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك.
ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة، وطريق للدنيا اسمه العمل.
وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة. وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل. كلاهما شيء واحد في نظر الإِسلام، وكلاهما مختلطان ممتزجان، وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه.
العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر.. إلى آخر خطوة من خطوات الحياة؛ يغرس الفسيلة والقيامة تقوم هذه اللحظة. عن يقين..!
وتوكيد قيمة العمل، وإبرازه، والحضِّ عليه، فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإِسلام. ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب، وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة الذي لا طريق سواه.
متفرقات النفوس من يجمعها..؟
وقد مَّرت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر، كانت تحس فيها بالفُرقة بين الطريقين. كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة.
وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده، وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه.. فالدنيا والآخرة مفترقتان، والجسم والروح مفترقان، والمادي يفترق عن اللامادي، والفيزيقا ـ بلغة الفلاسفة ـ تفترق عن الميتافيزيقا، والحياة العملية تفترق عن الحياة المثالية أو عن مفاهيم الأخلاق.. إلى آخر هذه التفرقات التي تنبع كلها مـن نقطة واحدة.. هي التفرقة بين الدنيا والآخرة، أو بين الأرض والسماء.
والكيان النفسي بحكم فطرته التي فطره الله عليها.. وِحدة.
وحدة تشمل الجسم والعقل والروح، تشمل “المادة” و”اللامادة”. تشمل شهوات الجسد ورغبات النفس وتأملات العقل وسبحات الروح . تشمل نزوات الحس الغليظة وتأملات الفكر الطليقة ورفرفات الروح الطائرة.
ولا شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة، وأن كلا منها جانح في اتجاه. ذلك إذا تركت وشأنها، ينبت كل نابت منها على هواه..!
ولكن العجيبة في هذا الكيان البشري، عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها، أن هذا الشتات النافر المنتثر، يمكن أن يجتمع، يمكن أن يتوحد، يمكن أن يترابط؛ ثم يصبح ـ من عجب ـ في وحدته تلك وترابطه، أكبر قوة على الأرض..! ذلك حين تقبَس الذرة الفانية من قوة الأزل الخالدة، فتشتعل وتتوهج، وتصبح طليقة كالنور.. تمتزج فيها المادة واللامادة فهما سواء.
والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات النافر المنتثر، وربطه كله في كيان، هو توحيد الدنيا والآخرة في طريق.
عندئذ لا تتوزع الحياة عملا وعبادة منفصلين، ولا تتوزع النفس جسما وروحا منفصلين، ولا تتوزع الأهداف عملية ونظرية، أو واقعية ومثالية لا تلتقيان.
حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة، وينطبقان فهما شيء واحد، يحدث مثل هذا في داخل النفس، فتقترب الأهداف المتعارضة، ويلتقي الشتات المتناثر، ثم ينطبق الجميع فهو شيء واحد. وتلتقي النفس المفردة ـ بكيانها الموحد ـ تلتقي بكيان الحياة الأكبر، وقد توحدت أهدافه وارتبط شتاته، فتتلاقى معه وتستريح إليه وتنسجم في إطاره، وتسبح في فضائه كما يسبح الكوكب المفرد في فضاء الكون، لا يصطدم بغيره من الأفلاك، وإنما يربطها جميعاً قانون واحد شامل فسيح.
خاتمة
والإسلام يصنع هذه العجيبة. ويصنعها في سهولة ويسر.
يصنعها بتوحيد الدنيا والآخرة في نظام: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص:77). ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الأعراف:32).
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الترجمة الكاملة الصادقة للمفهوم والعقيدة الإِسلامية؛ ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقاً واحدا و “حِسبة واحدة”.
…………………………………
الهوامش:
- رواه أحمد وغيره بإسنادٍ صحيح.
المصدر:
- محمد قطب، كتاب هل نحن مسلمون، ص21-23.