قد يرى البعض أن طريق العقيدة ومأخذها شاق وثقيل التكاليف؛ لكنه الطريق الموصل بدلا من ضياع الجهد ومرارة التجارب وتتابع السنين بلا ثمرة.

مقدمة

يشق الطريق على البعض، طريق هذه الدعوة وطريق هذا الدين الجليل. وعندما يطول الوقت ويضعف البعض أو تخفق بعض التجارب لتقصير أهلها أو لعدم نضوج الظروف والبيئة أو لما يعلم تعالى من الحكمة التي أخفاها عن خلقه سبحانه ﴿وما كان الله ليُطلعكم على الغيب﴾؛ فيذهب البعض الى اقتراح طرق أخرى ويأخذ مسالك يراها أقصر أو أيسر أو أهون. ويظن في ذلك خيرا؛ فإذا به ينفق عمرا وجهدا ثم يدفع ثمنا أضعاف ما كان يدفعه في الطريق العقدي القويم، ثم يعود خاسرا صفر اليدين، ويضيف تجربته الى مرارات التجارب قبله.

البديل القومي

لقد بُعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهذا الدين، وأخصبُ بلاد العرب وأغناها ليست في يد العرب، إنما هي في أيدي غيرهم من الأجناس..!

بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء عرب من قبل الروم، وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس، يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس، وليست في أيدي العرب إلا الحجاز تهامة ونجد، وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك..!

وربما قيل أنه كان باستطاعة محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق الأمين الذي حكَمه أشراف قريش من قبل في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه منذ خمسة عشر عاماً قبل الرسالة، والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً.. أنه كان في استطاعته أن يثيرها قوميةً عربيةً تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتْها الثارات ومزقتْها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة.. الرومان في الشمال والفرس في الجنوب.. وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل أرجاء الجزيرة.

وربما قيل: أنه لو دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذه الدعوة لاستجابَت له العرب قاطبة، بدلاً من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة..!

وربما قيل: أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، كان خليقاً ـ بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة، وبعد أن يولَوه فيهم القيادة والسيادة، وبعد استجماع السلطان في يديه، والمجد فوق مفرقيه ـ أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى..!

ولكن الله ـ سبحانه ـ وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله، صلى الله عليه وسلم، هذا التوجيه..! إنما وجّهه إلى أن يصدع بـ (لا إله إلا الله)، وأن يحتمل هو والقِلة التي تستجيب له كل هذا العناء..!

لماذا؟ إن الله ـ سبحانه ـ لا يريد أن يعنّت رسوله والمؤمنين معه. إنما هوـ سبحانه ـ يعلم أن هذا ليس هو الطريق، ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي، إلى يد طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت!

إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترفع كلمة (لا إله إلا الله).

وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي، إلى طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت..!

إن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله إلا أن ترتفع راية (لا إله إلا الله) ـ (لا اله إلا الله) كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته؛ لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله، ولأن (الجنسية) التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.

وهذا هو الطريق..

طرح العدالة الاجتماعية

وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعاً للثروة والعدالة. قلةٌ قليلة تملك المال والتجارة، وتتعامل بالربا فتتضاعف تجارتها ومالها. وكثرةٌ كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة، وجماهير كثيرة ضائعة من المال والمجد جميعاً..!

وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يرفعها راية اجتماعية، وأن يثيرها حرباً على طبقة الأشراف، وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء..!

وربما قيل: أنه لو دعا يومها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف والجاه، والقلة القليلة مع هذه الموروثات، بدلاً من أن يقف المجتمع كله صفاً في وجه (لا إله إلا الله) التي لم يرتفع إلى أُفُقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس..!

وربما قيل: أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، كان خليقاً بعد أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها، أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعَثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى..!

لكن الله ـ سبحانه ـ وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه. لقد كان الله ـ سبحانه ـ يعلم أن هذا ليس هو الطريق؛ كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل، يرد الأمر كله لله، ويقبل عن رِضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة التوزيع، ومن تكافل الجميع، ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه سواء أنه ينفذ نظاماً شرعه الله، ويرجوَا على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء؛ فلا تمتلئ قلوبٌ بالطمع ولا تمتلئ قلوبٌ بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب..! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي تقوم على غير (لا إله إلا الله).

البديل الأخلاقي المنفصل عن العقيدة

وبُعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى ـ إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.

كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر “زهير بن أبي سلمى”:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدَّم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ

ويعبر عنه القول المتعارف في الجاهلية “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”. وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية، وكانت الدعارة في صور شتى متفشية من معالم هذا المجتمع؛ شأنه شأن كل مجتمع جاهلي قديم أو حديث.

وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس.

وربما قيل: أنه، صلى الله عليه وسلم، كان واجداً وقتها ـ كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة ـ نفوساً طيبة يؤذيها هذا الدنس. وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير.

وربما قال قائل: أنه لو صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك لاستجابت له ـ في أول الأمر ـ جمهرة صالحة، تتطهر أخلاقها، وتزكوا أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحمْلها، بدلاً من أن تثير دعوة (لا إله إلا الله) المعارضة القوية منذ أول الطريق.

ولكن الله ـ سبحانه ـ كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق..! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة التي تستند إليها هذه الموازين والقيم، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة، وتوقّعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبْل تقرير هذه العقيدة، وتحديد هذه السلطة تظل القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك، بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء..!

نتيجة البديل العقدي

فلما تقررت العقيدة ـ بعد الجهد الشاق ـ وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لمّا عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب (لا إله إلا الله).. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون..

تطهرت الأرض من (الرومان والفرس)؛ لا ليتقرر فيها سلطان (العرب)، ولكن ليتقرر فيها سلطان (الله). لقد تطهرت من سلطان (الطاغوت) كله، رومانياً، وفارسياً، وعربياً، على السواء.

وتطهَّر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام (النظام الإسلامي)، يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، ويسميها راية (الإسلام). لا يقرن إليها اسماً آخر، ويكتب عليها: (لا إله إلا الله)..!

وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكَت القلوب والأرواح، دون أن يحتاج الأمر حتى للحدود والتعازير التي شرعها الله ـ إلا في الندرة النادرة ـ لأن الرقابة قامت هناك في الضمائر، ولأن الطمع في رضا الله وثوابه، والحياة والخوف من غضبه وعقابه، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات.

وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام.

ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام، كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وُعدوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً، لا يدخل فيه الغلب والسلطان.. ولا حتى بهذا الدين على أيديهم.. وعْداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا.. وعداً واحداً هو الجنة. هذا كل ما وُعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاقّ، والمضيّ في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان، وهو: ( لا إله إلا الله)..!

فلما أن ابتلاهم الله فصبروا، ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم، ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض ـ كائناً ما كان هذا الجزاء، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم ـ ولّما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجد ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض، ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت..

لما أن علم الله منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا ـ إذن ـ أمناء على هذه الأمانة الكبرى؛ أمناء على العقيدة، التي يتفرد فيها الله ـ سبحانه ـ بالحاكمية في القلوب والضمائر، وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها، وعلى عدل الله يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم، ولا لعشيرتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم؛ إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله، ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من الله، هو الذي آتاهم إياه.

خاتمة

ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء. وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها.. راية لا إله إلا الله.. ولا ترفع معها سواها. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره، المبارك الميسَر في حقيقته.

وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية.. أو رفعت أي شعار بجانب شعارها الواحد (لا إله إلا الله).

ذلك شأن القرآن المكي كله في تقرير: (لا إله إلا الله) في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق ـ على مشقته في الظاهر ـ وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى، والإصرار على هذا الطريق.

………………………

المصدر:

  • كتاب معالم في الطريق، ص23-31.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة