ما بين الغفلة من ناحية، وإرادة الشر من ناحية أخرى؛ يقع القلب السليم. وبين المهانة والتبعية من جانب، والجرأة والوقاحة على الرذائل من جانب آخر؛ يقع الحياء.

سلامة القلب

لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات:84]، وبين أنه لن ينجو من عذاب الله تعالى يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:88-89].

والقلب السليم هو الذي سلَّمه الله تعالى، من كل شبهة تعارض خبر الله تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه، ومن ذلك ما اشتهر عند الناس أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من شره.

مواقف الناس أمام سلامة القلب

ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان:

طرف الإفراط أو الغلو في سلامة القلب

حتى ينقلب إلى بَلَهٍ وغفلة وانخداع لأهل الخداع، وقلة معرفة بالشر وأهله.

الطرف الثاني: التفريط والجفاء

في التحلي بهذا الخُلق الرفيع حتى يصبح القلب مأوًى للشبهات والشهوات والخداع والأحقاد وإرادة الشر والمكروه بالغير.

الوسط والعدل: وهو الذي منَّ الله عليه بقلب سليم مطمئن

يحرق ما يرد عليه من الشبهات والشهوات، ولا يحمل حقدًا ولا مكروهًا ولا غدرًا ولا خيانة لمسلم، في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين، عارف بالشر وأهله، حَذِر منهم ومن كيدهم.

ويفرق الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، بين سلامة القلب والبلَه والتغفل فيقول:

“والفرق بين سلامة القلب والبَلَه والتغفُّل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به.

وهذا بخلاف البلَه والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يُحمَد إذ هو نقص، وإنما يَحمَد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه. والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لست بخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ»، وكان عمر أعقل من أن يُخدع وأورع من أن يَخدع.

وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾؛ فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم الذي سلم من هذا وهذا”. (1كتاب «الروح» (ص517))

الحياء

الحياء خير كله، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق. (2انظر: «مدارج السالكين» (2/601)، ط. دار طيبة)

ولما مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعظ أخاه في الحياء قال: «دعه؛ فإن الحياء من الإيمان». (3البخاري (24)، ومسلم (36))

وقال: «الحياء لا يأتي إلا بخير». (4البخاري (6117)، ومسلم (37))

«وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خِدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه». (5البخاري (6119)، ومسلم: (2320))

ومع حسن هذا الخلق، إلا أنه كغيره من الأخلاق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهو وسط بينهما.

مواقف الناس من خُلُق الحياء

طرف أهل الإفراط والغلو الى العجز والمهانة

الذين وصل بهم الإغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والأخروية، ومن آثار ذلك الرضا بالدون والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير، وتضييع الحقوق.

طرف أهل التفريط والإضاعة وقلة الحياء

وهم الذين قل حياؤهم وتجرءوا على فعل ما يعاب وفعل ما يَقْبح؛ دون حياء من الله عز وجل، ولا من الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة ولا آدابًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا.

الوسط العدل بالحياء النبوي

وهم الذين قاموا بهذا الخُلق الرفيع كما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قولًا وفعلًا، فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده، واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قولٍ أو عملٍ يخلّ بالآداب أو المروءات، كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في مصالحهم الدينية والدنيوية والصدْع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهم في دينهم ودنياهم.

يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد…

وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يُطمع في نفسه عدوَه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك الحياء، وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس”. (6«مدارج السالكين» (3/ 76 – 77)، ط. دار طيبة)

خاتمة

كم من بلَه وغفلة، وكم من مهانة وضِعة وتبعية؛ أظهرها أصحابها في مظهر سلامة القلب أو الحياء؛ بينما هي تفريط فيما أمر الله ومجافاة لما أمر تعالى ولِما أثنى على أصحابه بالانتصار ممن ظلمهم.

والعيب الأشد هو نسبة مهانتهم وضِعتهم لدين الله وشرعه؛ حتى يظن الظان أن هذا مما يُتقرب به لله. وهذا خديعة من جانب، وتشويه لدين الله من جانب آخر. والسعيد من بصّره الله بمواقع قدمه.

……………………………….

الهوامش:

  1. كتاب «الروح» (ص517).
  2. انظر: «مدارج السالكين» (2/ 601)، ط. دار طيبة.
  3. البخاري (24)، ومسلم (36).
  4. البخاري (6117)، ومسلم (37).
  5. البخاري (6119)، ومسلم: (2320).
  6. «مدارج السالكين» (3/ 76، 77)، ط. دار طيبة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة