من أعظم الأمور تأثيرا و”حساسية” مجتمعية وسياسية، وتأثيرا في الحراك الجماهيري والأوضاع العامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تركهما أو فعلهما بغير ضوابط، والأمة تجني عائد ذلك.

مقدمة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو ذروة سنامه، والطريق إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله عز وجل، وخيرية هذه الأمة وعزتها متوقفان على القيام بشعيرة الأمر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الله عز وجل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].

ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المُرْضِي لله تعالى جاءت الآيات والأحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن الانحراف بها يمينًا وشمالًا، وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة للأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس.

مواقف الناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد افترق الناس في القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى طرفين ووسط.

الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط

وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا الأمر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية للأمر والنهي، ودون النظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودون مراعاة لأحوال الزمان أو المكان أو الأشخاص، بل قد يصل بهم الإفراط إلى الخروج على الأمة بالسيف، كما حصل ذلك من الخوارج والمعتزلة ومن تأثر بهما.

ويتحدث الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، عن شمول الشريعة وكمالها وخيريتها؛ ويضرب لذلك أمثلة فيقول:

“ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:

المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يُحبه الله ورسوله؛ فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسُوغ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله.

ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه منكر أكبر منه؛ فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلُفه ضده.

الثانية: أن يقِلّ وإن لم يزُل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمةُ؛ فإذا رأيت أهلَ الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كَرَمي النُّشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك.

وإذا رأيت الفُسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتَصْديِة، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلًا عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها، وخِفْت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدَع والضلال والسحرة، فدعه وكتبَه الأولى، وهذا باب واسع». (1«إعلام الموقعين» (3/ 5-7) باختصار)

الطرف الثاني: أهل التفريط والتقصير

وهم الذين قعدوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد، وبرروا ذلك باجتناب الفتن التي تترتب على الأمر والنهي كما حصل ذلك من المرجئة وأهل الفجور.

الموقف الوسط المتوازن

وهو الذي عليه أهل الاستقامة؛ أهل السنة والجماعة الذين قاموا بشعيرة الأمر والنهي مراعين في ذلك الضوابط الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، وحَذِروا وحذَّروا من الخروج على جماعة المسلمين بالسيف، ومع ذلك فهم يصْدعون بالحق من دون سيف ولا عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من الأذى ما أصابهم؛ قال الله عز وجل: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17].

وعن هذين الطرفين المذمومين ـ طرف الإفراط وطرف التفريط ـ يقول شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى:

“ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك». (2«الآداب الشرعية» (1/ 177))

أما عن الوسط بين هذين الطرفين؛ فيقول رحمه الله تعالى:

“ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان، كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميعًا أو ينهى عنهما جميعًا. وليس كذلك؛ بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة، كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17].

وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم -أو: نقول- بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم». (3البخاري في الفتن، باب: قوله ﷺ: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» ح (7056)، ورواه مسلم في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح (1709))، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق.

ولأجل ما يُظَنُّ مِنْ تعارض هذين تَعْرِض الحَيْرة في ذلك لطوائف الناس، والحائر الذي لا يدري ـ لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك ـ ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه». (4«الاستقامة» (1/ 41-42))

خاتمة

كثيرا ما حدثت فتن على يد من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضوابط شرعية فاستخدم الطغاة هذا المدخل في السنين القريبة فاستطالوا على المسلمين، وشوّهوا الخيّرين وقادوا الأمة الى مزيد من التحلل والانسلاخ من شريعة الله والإرتماء في حضن الصليبيين والصهاينة والقيام بالمزيد من الفساد.

وكثيرا أيضا ما خسرت الأمة ومُررت مصائب سياسية واجتماعية وأخلاقية بسبب سكوت العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولا بد من هذا الفقه لتحقيق المصالح بأقصى ما يمكن للدعاة والمصلحين، وتقليل المفاسد بقدر ما يستطيعون. ولا يجوز السكوت عما أمر الله، كما لا ينبغي أن يتسبب الأمر والنهي في خسارة للأمة وزيادة المفاسد. والأمر يحتاج الى فقه عميق، ومعرفة عميقة بالواقع؛ فالمجرمون في معسرات الكفر يقبعون للمكر للإيقاع بالأمة وبمصلحيها فيمكرون الليل والنهار. والفقه في دين الله ومعرفة الواقع والاستعانة بالله تعالى يمنع نفوذ مكرهم، والله من ورائهم محيط.

………………………………

الهوامش:

  1. «إعلام الموقعين» (3/ 5-7) باختصار.
  2. «الآداب الشرعية» (1/ 177).
  3. البخاري في الفتن، باب: قوله ﷺ: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» ح (7056)، ورواه مسلم في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح (1709).
  4. «الاستقامة» (1 /41-42).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة