الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أما بعد:
فإن لله عز وجل سننا في تغيير أحوال عباده وتبديلها؛ وذلك في تقليب الأمور من الحسن إلى الأسوأ ومن الأسوأ إلى الحسن، وهذه السنن ثابتة مطردة لا تحابي أحدا ولم يعلم أن الله عز وجل قد خرقها لأحد من عباده ولو كانوا مؤمنين قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11] ومن تلك السنن التي تعمل اليوم بقوة في الأمة:
سنن التمايز قبل التمكين
وأصل هذه السنة قوله تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران:179] وحينما ننزل هذه السنة على واقع الأمة اليوم نرى مصداقها وآثارها واضحة جلية.
إن من حكمة الله تعالى في الابتلاء والفتن وتسليط أعدائه على أوليائه أن تتحقق سنة التمايز حيث أن الناس في أحوال الرخاء متساوون ولكنهم يتباينون في الشدائد فيظهر المؤمن من المنافق وقوي الإيمان من ضعيفه كما تظهر حقيقة عقيدة الولاء والبراء المخباة في النفوس ويظهر من يحب أولياء الله ويناصرهم ومن يحب أعداء الله ويواليهم ويظاهرهم على المؤمنين
وها هي اليوم تظهر جلية في حلبة الصراع بين الحق والباطل وفي هذا خير كثير للمؤمنين حيث يعرفون أولياءهم من أعدائهم على الحقيقة ويتعرى لهم الباطل وأهله ويعرفون ويظهر النفاق والخداع ويتعرى الشر وأهله فيهلك من هلك وينجو من ينجو و(لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) حتى يصير الناس على فسطاطين لا اختلاط بينهما وحينئذ ينزل الله نصره على أوليائه، ويمكن لهم في الأرض، وقبل هذا التمايز فإن سنته سبحانه تمنع من ذلك، وبالنظر في واقع الأمة اليوم ولا سيما ما يجري من الفتن والتغيرات في بلاد الحرمين نرى أن هذا التمايز يظهر يوما بعد يوم؛ ليس في رؤوس الباطل المفسدين فحسب؛ فهؤلاء قد تبين أمرهم لكل ذي بصيرة، إنما التمايز الآن يسري في فئات من المجتمع؛ لها ثقلها ويحسن الظن بها كثير من الناس ومن هؤلاء:
فئات جرى عليها سنة التماييز فانحازت للباطل
– بعض القضاة حيث هلك منهم الكثير؛ وانحازوا إلى خندق وفسطاط الطواغيت، وسارعوا في أكلهم السحت، وقولهم الإثم، وتنفيذ كل ما يريده أسيادهم المبطلون، ومعاداتهم لأولياء الله الصالحين؛ وظلمهم بالأحكام الجائرة.
– بعض المشايخ وطلاب العلم، الذين سقط منهم من سقط، وصف أقدامه في خندق الظلمة، وجعل نفسه عدوا لأولياء الله ودعاته الصادقين.
– بعض الخطباء والوعاظ، الذين هلك منهم من هلك، ووجه همته وخطبته وعظته في معاداة أولياء الله، وموالاة أعداء الله ومدحهم والتطبيل لهم.
– أكثر الجنود والعساكر؛ الذين هلك منهم الكثير في هذه الفتن، ولولا خذلان الله لهم؛ وجعلهم حماة للباطل وأهله؛ لما تمكن الباطل في تنفيذ فساده وباطله، فانضموا إلى خندق الباطل وحموه، وعادو أولياء الله؛ وحاربوهم وسجنوهم وعذبوهم.
– فئة الوزراء وبعض المدراء والمسؤولين؛ الذين ينفذون قرارات الظلمة والطواغيت المصادمة لشرع الله، مقدسين تلك الأنظمة والقرارات؛ وكأنها وحي منزل (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).
– بعض الكتاب والمؤلفين، حيث هلك منهم الكثير في تزيين الباطل، والتسويق للفساد، ومدح المفسدين المجرمين.
– فئة الإعلامين؛ وهم من أشد الناس بلاء وفتنة، حيث سقط الكثير منهم في التسويق للفساد، وإضلال الأمة، والتلبيس عليها في دينها؛ في تحسين القبيح، وتقبيح الحسن، وتقديس الطواغيت والتطبيل لهم.
– فئة بعض أفراد المسلمين؛ الذين تأثروا بمواقف الفئات السابقة، واتبعتها بغير وعي، ولا عقل، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
ونجى الله عز وجل من بين الفئات السابقة؛ من اختارهم لولايته، ونصرة دينه، فبينوا الحق للناس، وفضحوا الباطل وأهله، وبينوا كيدهم ومكرهم، فسجن منهم من سجن، وقتل من قتل، وأفلت من أفلت، وهؤلاء هم خاصة الله عز وجل، وأنصار دينه، الذين يمنع الله بسببهم العذاب العام عن الأمة، ويمسك السفينة أن تغرق بمن عليها، وهم الذين ورد وصفهم في قوله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود:116] وهم الذين ورد وصفهم في الحديث النبوي أنهم: (القابضون على الجمر) وهم: (الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس) نسأل الله أن يجعلنا منهم.
والتميز والتمحيص يتوالى اليوم؛ ويزداد يوما بعد يوم في واقعنا؛ حتى تنفصل النباتات الغريبة، والطفيليات الخبيثة؛ عن جسد الأمة، التي أثقلته حينا من الدهر وتبقى الفئة النقية النظيفة؛ الذين ينزل الله عز وجل نصره عليهم. وقبل هذا التميز فإن سنة الله عز وجل تقتضي تأخير النصر والتمكين عن الأمة.
سنة الإملاء للطواغيت والمفسدين ومن والاهم وفضحهم قبل سقوطهم
وهذه سنة حتمية تسبق هلاك المجرمين الطغاة ومن والاهم، حيث يملي الله سبحانه لهم؛ ويستدرجهم، ويمكر بهم؛ في الوقت الذي يكفرون به سبحانه، ويؤذون أوليائه، حتى إذا فرحوا واغتروا؛ دفعهم هذا إلى مزيد من الفساد والظلم والإثم؛ جاءهم أمر الله فقصمهم، بعد أن هيأ من أوليائه الممحصين من يخلفهم قال سبحانه وتعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178] وقال سبحانه: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3] وقال سبحانه: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:54-56]، وفي فترة الإملاء هذه يظهر الله عز وجل من فضائحهم وظلمهم وقاذوراتهم أمورا لم تكن معلومة لبعض الناس المغرورين بهم، فيتعرون تماما للناس، ولا يبقى فيهم خيرا يذكرهم الناس به؛ بل الشر المحض، فإذا سقطوا في الوقت الذي حدده الله لهم، ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، وفرح الناس بزوالهم.
ولذا قد يتأخر سقوط المجرمين؛ وقصم الله عز وجل لهم؛ مع ما فعلوه من الظلم والطغيان، وذلك لحكمته سبحانه وعلمه بأن لهم بقية أعمال إجرامية قد كتبها الله عليهم أن يفعلوها ولم يفعلوها بعد، فيمهلهم الله تعالى ليستكملوها، حتى يحق عليهم عذابه ونهايتهم، قال الله عز وجل: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) [المؤمنون:63]
قال السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى أن قلوب المكذبين في غمرة من هذا، أي: وسط غمرة من الجهل والظلم، والغفلة والإعراض، تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن، فلا يهتدون به، ولا يصل إلى قلوبهم منه شيء…فلما كانت قلوبهم في غمرة منه عملوا بحسب هذا الحال من الأعمال الكفرية والمعاندة للشرع ما هو موجب لعقابهم ولكن لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ هذه الأعمال (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أي فلا يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم فإن الله يمهلهم ليعملوا هذه الأعمال التي بقيت عليهم مما كتب عليهم فإذا عملوها واستوفوها انتقلوا بشر حالة إلى غضب الله وعقابه).
نسأل الله عز وجل النجاة من الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا على الحق، وأن يجعلنا في صف أوليائه المتقين، وأن يباعد بيننا وبين صف الطواغيت وأتباعهم كما باعد بين المشرق والمغرب، مسالمين لأوليائه، معادين ومحاربين لأعدائه.
والحمد لله رب العالمين
اقرأ أيضا
عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (١)
سُنة الله عز وجل في العصاة والمكذبين
سُنة الله في المدافعة بين الحق والباطل